د.خالدة خليل
التغيير السياسي لا يحدث بضغطة زر، ولا يولد بين ليلة وضحاها، ولا ينشأ من فراغ، ولا يُنجز صدفة؛ بل يحدث حين تكتمل شروطه وتتراكم أسبابه، وعندما يبلغ القوس منتهاه ليُطلق سهمه. عندها يتصدع جدار الخوف، وتفقد السلطة آخر خيوط شرعيتها، وتُفتح أبواب التاريخ على مصراعيها، ليشرق زمن جديد من بين الركام والحطام.
وذلك لا يعني البتّة أن يكون التغيير مجرّد هدمٍ بلا بناء؛ فالهدم قد يقع في لحظة خاطفة، أمّا البناء فيحتاج إلى صبرٍ عميق، ووعيٍ متقد، وزمنٍ كفيل بترسيخ أركانه. فالتغيير الحقيقي أشبه برحلةٍ طويلة، تبدأ من الفكر وتنتهي بالفعل المتواصل مرحلة مرحلة، بعيدًا عن التسرّع والاندفاع، لتغدو إرادة الشعوب قوة لا تُقهر، وإشارة فارقة على ولادة عصرٍ جديد، حين يقترن المسار برضاها واحتضانها له.
ومن هذا المنطلق، فإن التغيير لا يُمنح للشعوب هدية، ولا يُشيَّد على وعود خاوية؛ إذ ليس منحة تُعطى، ولا أملًا يُذرَى في سراب، بل هو حتمية تاريخية تنبثق من صميم إرادة الشعوب حين تنهض.
غير أنّ النهوض لا يُختزل في شعارات تُرفع في الساحات، ولا في هاشتاغاتٍ تتطاير على مواقع التواصل الاجتماعي، بل هو مسار ممتد يبدأ بتحوّلٍ عميق في الوعي، قبل أن يتجسد في فعل سياسيٍّ متين يُشيّد دعائمه.فالتغيير الحقيقي لا تصنعه وحدها هبّات الجماهير، مهما تعاظم صخبها واشتد زخمها، بل لا بد أن تُدار هذه الطاقات الشعبية بعقول قيادية تمتلك حكمة التفكير الهادئ، ورؤية الخطة المحكمة، وعزيمة العمل المتواصل، بعيدًا عن نزق الارتجال وانفعالات اللحظة، لتسمو فيها المصلحة العامة فوق كل مصلحة ضيقة أو نزعة شخصية.
وفي بلدان الشرق الأوسط، لا يمكن تصور أي تحوّل سياسي بمعزل عن العواصف الإقليمية والدولية. فالمنطقة ليست ساحة مستقرة أو خالية من التوتر، بل خضماً للصراعات وشبكة معقدة من المصالح المتشابكة، تتصارع فيها القوى الكبرى وتُدار معاركها عبر أدوات محلية وكيانات تعمل بالوكالة في كثير من الأحيان.
وفي قلب هذا الاشتباك تتحوّل إرادة الشعوب إلى ساحة اختبار يُقاس فيها صمودها وقدرتها على البقاء. وغالبًا ما يحتاج هذا الصمود إلى تمهيد ودعم حتى يبلغ النضوج منتهاه، حين تدرك الشعوب أن خلاصها مرهون بانتزاع نظام انهار من الداخل، وحين تتصدع قواعد الحكم وينكشف زيف الممارسات، عندها يبزغ فجرٌ جديد معلنا عن ولادة تحوّل استراتيجي.
فالشعوب تبحث أولًا عن الاستقرار والعيش الكريم في دولة تحمي حقوقها وتكفل واجباتها، حيث يعي كل فرد دوره ويتمتع بحقوق مواطنته الكاملة. كما أن الشعوب لا تنسى أبدًا من باعها في سوق المصالح، والتاريخ لا يغفر لمن استهان بإرادتها، مهما طال الزمن أو اشتد الظلام!










