د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
مرة، طرح ناقد معماري معروف، تساؤلا افتراضياً عن مَنْ <هوَ> المعمار المؤهل والقادر لإن يكون "ممثلاً" لعمارة <الكرة الارضية>، في حالة اذا تقرر تشييد "مبنى أرضي" على سطح أحد الكواكب المأهولة.. والمكتشفة حديثاً باحدى المجرات الفضائية؟! وأجاب هو نفسه، بانه سيختار المعمار "نورمان فوستر" (لهذة المهمة! وفي ظني فأن كثراً من المعماريين (.. وكالعادة!) قد لا يتفقوا مع هذا الاختيار، لكنه يبقى، بالنسبة اليّ شخصياً، اصطفاءً ملائما ومناسباً. فهذا المعمار المجتهد، والمبدع، والعصامي (..والكلمات "المجتهد والمبدع والعصامي" لم تأت، هنا، جزافاً في نعت "نُورْمَانْ فُوسْتَرْ") قد خاض الصعاب العديدة التى واجهته وسعى بكل قوة الى تحديها والتغلب عليها لبلوغ مقصده وهدفه الذي وضعه لنفسه ليكون في الاخير.. معماراً. لقد كان الطفل الوحيد لعائلة انكليزية فقيرة اذ عمل والده عاملاً في مصنع ووالدته عملت في مخبز محلي. وفي مدرسته الاولى التى انظم اليها لقى تَنَمَّراً قاسيا من قبل زملائه التلاميذ لفقره، ما دفعه لقضاء معظم وقته بين الكتب. ترك المدرسة في سن السادسة عشر ليلتحق موظفا في بلدية مانجستر. وبعد ان اكمل خدمته العسكرية سعى لان يعمل في مكتب معماري محلي، طامحا ان يحقق حلمه بان يكون معماراً يوما ما. وفعلا تحققت مساعيه عندما التحق في سنة 1956 بكلية العمارة والتخطيط بجامعة مانجستر. ولكي يتمكن من دفع رسوم تعليمه الجامعي عمل اثناء دراسته اعمالاً عديدة بضمنها بائع "ايس كريم" وبائع خبز في مخبز. وتمكن ان ينهى تعليم الجامعي عام 1961، ليفوز لاحقاُ بمنحة دراسية ويلتحق بكلية العمارة في جامعة ييل Yale University بالولايات المتحدة حاصلا منها درجة الماجستير. وبعد ان عاد "نُورْمَانْ فُوسْتَرْ" الى انكلترة، افتتح مع اخرين مكتبا استشاريا معني اولا في تصاميم ابنية صناعية، ثم تلى ذلك اعمال تصميمية في حقلي الادارة والصناعة ايضا باستخدام تقنيات جديدة في الانشاء وفي العمارة.
وفي ظني، فان <مأثرة> "نُورْمَانْ فُوسْتَرْ"، لن تقتصر على مساعيه المختلفة لجهة تأمين اجور تعليمه، كما انها لا تتوقف عند حالة فقره، فتلك امور امست عادية وحتى مألوفة: تحدث (..وحدثت دوما) في مناطق عديدة من العالم بضمنها منطقتنا الى لا تخلو من "فقراء" مدقعين عانوا كثيرا من اجل ضمان وتأمين مستقبلهم الدراسي. بل انها حتى لا تتحدد بواقعة عدم استسلامه لمرض السرطان الذي اصيب به، والذي أُخبر بانه "سيعيش" لفترة قصيرة، متشبثاً باصرار بطولي للتغلب عليه، خارجا من معركته الشجاعة معه مبرئا وشافيا منه. <مأثرة> "فُوسْتَرْ"، اراها في مثابرته ومواظبته في اجتراح مقاربة تصميمية حداثية دُعيت لاحقاً بـ <الهاي – تاك>: "عمارة التكنولوجيا الفائقة" High-tech Architecture وكان "فُوسْتَرْ" احد اركانها المهمين، وهي مقاربة قائمة على الهندسية والتراكيب الانشائية وجوانب اخرى كمنظومة استغلال المساحات. وقد تميزت في توظيف المواد والتقنيات الصناعية الحديثة للتعبير عن بنية المبنى ووظيفته. والاستعداد لتبني تقنيات جديدة من الهندسة وغيرها، والاشتغال على نحو جاد في قضايا العرض الاحتفالي لبنية المبنى وخدماته. وعندي، فأن في هذا الجانب تحديداً، تكمن <اضافة> "فُوسْتْر" المبتكرة وقيمة <مداخلته> التصميمية المبدعة.
ولد، اذاً، "نُورْمَانْ روبرت فُوسْتَرْ" في الاول من حزيران عام 1935 في قرية "رديش" Reddish (العائدة الى بلدية "ستوكبورت" ضمن مقاطعة "مانجستر" الكبرى Greater Manchester في انكلترة)، انتقلت العائلة لاحقا الى مانجستر، حيث عاشوا في فقر. ترك المدرسة في سن السادسة عشر وحصل على وظيفة موظف في بلدية مانجستر. في عام 1953 اكمل "فُوسْتَْر" خدمته في سلاح الجو الملكي الذي اختاره بسبب حبه للطيران. عمل مساعد مدير عقود لدى مكتب معماريين محلين. التحق بعد ذلك في عام 1956 بكلية العمارة والتخطيط بجامعة مانجستر. وكما عرفنا، فانه لكي يوفر اجور تكاليف دراسته عمل في اعمال وقتية عديدة. وعند تخرجه من الكلية عام 1961 حصل على منحة دراسية في كلية العمارة في "جامعة ييل" بامريكا. وبناء على اقتراح من استاذ محلي نصحه ان يزور مواقع معمارية عديدة بالولايات المتحدة لمدة عام قبل ان يعود الى انكلترة، التى عاد اليها في عام 1963. اسس مع معماريين اخرين (ريتشجرد روجرز <1933> R. Rogers من بينهم الذي التقاه اثناء دراسته في امريكا) مكتبا استشاريا دعاه <Team 4>، وبعد انفصام وتفكك المكتب في 1967، انشأ "نُورْمَانْ فُوسْتَرْ" مع زوجته "ويندي <تشيزمان> فوستر" (1937 -1989) Wendy Cheesman مكتباً خاصا بهما باسم "فوستر ومشاركوه" Foster Associates، والذي امسى لاحقا في 1999 "فوستر+ شركاء" Foster+ Partners. ومن ضمن اشهر تصاميم هذا المكتب المهم يمكن ايراد المشاريع التالية: مبنى المقر العام لمصرف HSBC في هونغ كونغ (1985)، قبة الرايخشتاغ، برلين / المانيا (1999)، الفناء الكبير في المتحف البريطاني، لندن/ بريطانيا (2000)، مبنى St Mary Axe، لندن/بريطانيا (2004)، جسر ميلاو Millau Viaduct فرنسا (2004)، برج Hearst Tower، نيويورك/ امريكا (2006)، مطار العاصمة بكين، بكين / الصين (2008)، سوق مركزي، ابو ظبي/ الامارات (2011)، مطار الملكة علياء، عمان/ الاردن (2013)، متحف زايد الوطني، ابو ظبي / الامارات (2020). نصب الملكة إليزابيث الثانية التذكاري، لندن، المملكة المتحدة (2025) وغيرها من عشرات بل مئات المشاريع المنفذة (.. وغير المنفذة) في مناطق جغرافية مختلفة من العالم.
حاصل على جوائز معمارية عديدة بضمنها جائزة "برتزكير للعمارة" في 1999، ومنحته الملكة اليزابيث لقب "سير" في عام 1990، وفي حفل تكريم عيد الميلاد عام 1999، أُعلن أنه سيُرفع إلى رتبة النبلاء، ليصبح <بارون فوستر من بنك التايمز> Baron Foster of Thames Bank. حاصل على درجة الدكتوراه الفخرية من "جامعة باث" University of Bath في عام 1986.
يشار دوما الى اقتران عمارة "مبنى الادارة العامة لبنك HSBC" في هونغ كونغ بالصين (1981 – 1985) مع نتاج المعمار "نُورْمَانْ فُوسْتَْر"، كاحد الامثلة الجلية لاضافات المعمار البريطاني المعروف في مقاربة "عمارة التكنولوجيا الفائقة". فهذا المبنى الفريد في عمارته والجديد في صياغة حلوله التكوينية، امسى نموذجا واضحا ونقياً لما يمكن ان تكون عليه تلك المقاربة المعمارية المميزة التى عمل فوستر وآخرون على تكريسها في المشهد المعماري بالسبعينات من القرن الماضي. فالمبنى الذي بلغ ارتفاعه نحو 179 مترا وبعدد طوابق بلغ 44 طابقاً، سمحت نوعية عمارته الخاصة الى تجميع سريع لعناصره التصميمية في الموقع، موفراً مساحات داخلية واسعة ومفتوحة، تتماشى مع مبادي <الهاي -تاك> High-tec، مع التركيز على الانظمة والوظائف المكشوفة نحو الخارج! وبودي المواظبة والاستمرار بالحديث عن عمارة هذا المبنى المتميز باسهاب، هو الذي ساهمت عمارته في ارساء وتكريس "الهاي- تاك" في المشهد والخطاب المعماريين الحداثيين، لكنني، وبحكم محدودية النص المتاح في خاصية زاويتنا هذة، سانتقل الى مبنى "فوستري" آخر ولافت، واعني به <مبنى المقر الرئيسي "لبنك الكويت الوطني"> الذي اكتمل تشييده في عام 2022 في مدينة الكويت.
والمبنى عبارة عن ناطحة سحاب، بطوابق عديدة وصلت الى 63 طابقاُ وبارتفاع نحو 300 مترا. وقد تم اختيار شكل مميز للمبنى، تستدعي هيئته شكل "صدفة اللؤلؤ"، هي التي كان صيدها والتعامل معها بمكانة حدث مؤثر في الذاكرة الجمعية الكويتية وفي ثقافتها واقتصادها. كما امتاز التصميم بتغيير دائم في مساحات ارضيات اشكال الطوابق المختلفة، ناجم عن تغيير كتلة المبنى والتنوع في اشكال استخدام اضلاع خرسانية رأسية امتدت على طول ارتفاع المبنى. وقد فضل مصمموا مكتب "نورمان فوستر ومشاركوه" الى توظيف مثل هذا الشكل لمبناهم والمتسم بتغيير دائم في مساحات وهيئات الطوابق، لجهة ضمان كفاءة عالية في استخدام الطاقة في المبنى، حيث تظلل الارضيات بعضها البعض الآخر، فضلا على قرار وضع الاضلاع الخرسانية باسلوب وبزوايا تقلل من تغلل اشعة الشمس المباشرة الى دواخل احياز المبنى. كما هَدَفَ المصممون ايضا جراء اختيار لون واجهات كتلة المبنى المميز (الضارب الى الوردي) مع معالجات مناخية خاصة ادخلت في تصنيع عناصر تلك الواجهات للحد من حرارة اشعة الشمس والعمل على تخفيض سلبية تأثيراتها.
اتصف تصميم مبنى بنك الكويت الوطني على حضور لافت لاحياز عامة متنوعة الوظائف موزعة في ثنايا برج البنك إضافة بالطبع الى عديد الاحياز المكتبية. فمثلا عند الطابق الثامن عشر ثمة مطعم يشغل طابقين؛ وفي الطابق التاسع عشر هناك صالة رياضية مجهزة باحدث الاجهزة الرياضية. كما توجد في الطابق الثامن والثلاثين قاعة حفلات موسيقية فريدة من نوعها باطلالة بانورمانية على الخليج وباقي احياء المدينة. اما في الطابق الثامن والاربعين، فقد تم تصميم قاعة اجتماعات تتألف من ثلاثة طوابق. وفي رأي المصممين فان تواجد تلك الفضاءات العامة في المبنى المصمم يسهم في حضور وضمان تواصل افضل بين الموظفين. وفي رأيهم فانهم المبنى المصمم يعتمد على احتياجات المصرف. وقد روعي تلبية المتطلبات التنظيمية في التصميم الداخلي، الذي يمكن تعديله بسهولة ليتوافق مع المتغييرات المستقبلية ونمو المصرف ذاته، وفي الاخير يشير معماريو المبنى بانهم صمموا بيئة عمل فردية، ".. حيث يتمتع كل موظف بحيزه الخاص".
ادناه بعض من اقوال المعمار نُورْمَانْ فُوسْتَْر" وتصريحاته التى صرح بها في ادبيات منشورة قمت بترجمتها من اللغتين الانكليزية والروسية، وهي بالطبع تعكس نوعية ذهنية هذا المعمار المتميز واسلوب تفكيره.
- " إن لم تكن شخصاً متفائلاً، فإنك لا يمكنك أن تكون معمارا على الإطلاق!"
- "كونك معماراُ، فأنت تصمم للحاضر، ولكن بوعي الماضي ولمستقبل مجهول في جوهره!"
- لطالما كان المعماريون دائماً في طليعة التكنولوجيا، فمنذ <ستونهنج>" (ستونهنج، بالإنجليزية: Stonehenge معلم تذكاري من عصور ما قبل التاريخ في سهل سالزبوري بإنجلترا. يتألف من حلقة خارجية من شواهد قائمة من الصخور، كل منها ارتفاعه نحو (4 أمتار)، وعرضه (2.1 مترًا)، ويزن نحو 25 طنًا، وعلى قممها عتبات علوية صخرية متصلة. يعتقد علماء الآثار أن ستونهينج بُني بين 3000 و2000 ق.م. خ. س.)؛ فمن ذلك المعلم، لا يُمكن فصل التكنولوجيا عن المضمون الإنساني والروحي للمبنى."
- "قلم الرصاص أو الحاسوب في حد ذاتهما هما ذكيان أو غبيان بقدر ما يستخدمهما الشخص المعني"
- " يتطلب الأمر جهدًا كبيرًا لجعل المبنى يبدو وكأنه لم يتطلب أي جهد".
- " كل ما نصممه هو استجابة لمناخ معين، وثقافة لمكان محدد".
- " بالامكان ان أصف عملية التصميم بأنها غيض من فيض: ما لا تراه هو الطريق الطويل والمضني، كل عمليات التدقيق تلك التي لا تنتهي مضاف اليها مهام آخرى".
- "للعمارة غطرستها الخاصة. إذ غالب ما ينظر إلى هذا العمل على أنه فن راق، مغلف بنوع من سحر متقن. في الواقع، هو تخصص شامل يأخذ في الاعتبار العلوم والفنون والرياضيات والتقنية والمناخ والطبيعة والسياسة والاقتصاد".
- "أي شيء يقلل من استهلاك الوقود ويقلل من الغازات المسببة للاحتباس الحراري هو خبر جيد".
- "أعشق الطيران، وأعشق الطائرات، ويمكن القول إنني ولعت بالطيران منذ صغرى. أسافر كثيرًا، وأستخدم المطارات، وبصفتي طيارًا، سافرت من وإلى المطارات آلاف المرات، لذا لديّ منظور واسع جداً عنها."
- " ليس من طبعي ان اعتمد على الامور العادية. أحبُّ البحث عن الأشياء من مصادر غير متوقعة".
- "تنتابني الدهشة عن مدى قلة التركيز الذي توليه مدارس العمارة، وحتى، العديد من المعماريين، في الواقع، لعملية مراحل بناء وتنفيذ المبنى."
- " أعتقد أن السيارة تُجسد تاريخ الابتكار والأناقة – بيد انها الآن، تمثل الجانب الآخر من <العملة>: اذ انها تعد العدو العام رقم 1."
- " كل شيء يلهمني، وفي بعض الأحيان أعتقد أنني أرى أشياء قد لا يراها الآخرون!".
- " العمارة، هي تعبير عن القيم!".
"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعْبِيرًاً> "نُورْمَانْ فُوسْتَْر"

نشر في: 8 سبتمبر, 2025: 12:02 ص









