(الجزء الثامن) غي هارشير ترجمة: رشا الصباغ سعياً لوعي ينفتح على مديات تنويرية هي من مستلزمات البناء الديمقراطي الجديد، وتحصيلاً لفائدة الاطلاع على تجارب العالم في الارتقاء بالانسان وحقوقه، تعيد آراء وأفكار نشر كتاب العلمانية، على حلقات، للكاتب غي هارشير وبترجمة رشا الصباغ. البلدان ذات التقليد البروتستانتيّ
تجسّد البلدان ذات التقليد البروتستانتيّ مثل بريطانيا العظمى والدانمرك، من جهتها، منطق الدنيوة حقّ التجسيد. إذ لا تزال الكنيسة هناك تتمتّع بوضع رسميّ (كنيسة (مقرّرة) في إنكلترا، وكنيسة دولة في الدانمرك)، الأمر الذي يلاحَظ من خلال تواجدها، بطرق شتّى، في قلب مؤسّسات الدولة الرسميّة. هذا لا يتنافى بطبيعة الحال مع حريّة ضمير تامّة عُزّزت بالتدريج في جميع البلدان الديموقراطيّة الحديثة. ولكن حريّة كهذه لا تشكّل العنصر التحرّريّ الأوحد في مواجهة كنيسة رسميّة: فهذه الأخيرة نفسها قد شهدت انفتاحاً في الآن نفسه الذي كانت فيه بقيّة المجتمع تتحرّر، كما أنّ معارك التحرّر السياسي الكبرى قد مرت عبرها كذلك. حتى أننا لن نجد، في تلك البلدان، الالتباس الذي كنا نتحدث عنه آنفاً، والذي يتمثّل بأوضح صوره في المؤسّسات البلجيكيّة: فـ (أصحاب الفكر الحرّ) ليسوا في طليعة حركات فصل السياسة عن تصوّرات الخير. ولكن هذا الوضوح في مستوى الفاعلين في المعركة (جميع مواطني أية دولة حديثة مسؤولون عن المثل الأعلى (العلمانيّ) بالمعنى الواسع، أي أنّه لا وجود لدولة حَكَم لا تحترم التصوّرات الخلافيّة للحياة الصالحة) يعوَّض، بالمقابل، بتواجد للكنيسة البروتستانتيّة (أو لأحد أقسامها، وهو الأنغليكاني في إنكلترا) في مستوى الدولة نفسه. بعبارة أخرى، بما أنّ الكنيسة قد تمّت إجمالاً دنيوتها، شأنها شأن بقيّة المجتمع، فإنّ تلك البلدان لم تجد نفسها مضطرّة لأن (تفصل) عن الدولة مؤسسةً كانت ربّما ستعتبرها غير ليبرالية، أي بالإجمال معارِضة لمسيرة تحرّر الإنسان والمواطن المميِّزة لحضارة حقوق الإنسان. لقد حافظت تلك الكنيسة إذن على وضع (رسميّ) لا يخلو هو ذاته، بالطبع، من لَبْس: فمن الصعب التأكيد أنّ ملّة محض خاصّة يمكن أن تكون على قدم المساواة تماماً مع ملّة أخرى تشارك في عمل الدولة نفسها. 1- المملكة المتّحدة- الكنيسة الانغليكانية في إنكلترا، (رسميّة مقرّرة) (الكنيسة المشيخانيّة رسميّة في اسكوتلاندا، أما في إيرلندا الشمالية وبلاد الغال فلم يعد هناك من كنيسة رسميّة). ماذا تعني الـ (الكنيسة الرسميّة)؟ الملك هو رأس الكنيسة و(حامي حمى الإيمان). خمسة وعشرون أسقفاً يمثّلون هيئة الأساقفة الأنغليكانيّة في مجلس اللوردات؛ كما تشكّل مجامع الكنيسة جزءاً من الهيئات التشريعية، إلخ. ولكن الكنيسة الأنغليكانيّة تابعة، بالمقابل، للدولة: إنها تخضع لنوع من التحكّم البرلمانيّ. فالكنيسة ليست (كنيسة دولة) بخلاف الوضع في الدانمرك، حيث تشكّل هناك إحدى دوائر الدولة؛ وهي (تكاد) لا تتمتع بامتيازات بالنسبة للأديان الأخرى. ولكن ينبغي التمييز بين مشكلة الكنيسة الرسميّة التي لم تعد موضع نزاع اليوم في إنكلترا، ومشكلة الحريّة الدينيّة التي كانت مثار العديد من الصراعات. لقد اعترف قانون 1689 حول التسامح بحريّة جزئيّة للبروتستانت (اللاامتثاليّين). وفي عام 1828 تمّ تعزيز حقوق هؤلاء البروتستانت، ثمّ أصبح الكاثوليك، في عام 1829، مواطنين كاملي الحقوق. تحرُّر (البابويّين) هذا لم يتمّ من تلقاء ذاته: إذ إنّ جون لوك Locke في كتابه رسائل حول التسامح، استثنى بخاصّة أولئك الذين، بخضوعهم لروما، لا يمكن أن يكنّوا، في رأيه، ولاءً خالصاً للسلطة المدنيّة. وفي عام 1858 تمّ تحرير اليهود كذلك تماماً. ولكن ثمّة أمراً غريباً لا بدّ من الإشارة إليه هنا: فقد اتّسع قانون التجديف، الذي كان يعني في الأصل الأنغليكانيّة فحسب، اتّسع ليشمل كنائس مسيحيّة أخرى، ولكنه لم يسرِ، مثلاً، على الإسلام: وهذا للمفارقة ما أنقذ سلمان رشدي من تهمة التجديف التي وجّهها الإسلاميون له. كما لم تنفِ المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان لدى إصدارها قرار وينغروف تطابق هذا القانون مع الاتفاقيّة الأوروبيّة لحقوق الإنسان. بالنسبة لحقل التعليم، تتلقّى المدارس التابعة لمختلف الطوائف الدينيّة مساعدة ماليّة من الدولة؛ والتربية الدينية، في التعليم العامّ، مؤكّدة. أمّا حالة إيرلندا الشمالية فهي، بكلّ تأكيد حالة خاصّة، ذلك أنّ النزاعات (الطائفيّة)- بين البروتستانت والكاثوليك- قد تمخّضت هناك عن أعمال عنف رهيبة. 2- الدانمرك- الكنيسة اللوثريّة في الدانمرك (تتمتع... بدعم الدولة)، بموجب الدستور. وزير الشؤون الكنسيّة يديرها، بينما يمارس مجلس النوّاب والمحكمة العليا سلطتها التشريعية والقضائية. كما يعتبر الأساقفة والقساوسة الرعويّون موظفين حكوميين. يمكن للمرء في الدانمرك أن يُعفى من ضريبة الكنيسة بالتصريح بعدم الانتماء إليها. ولا تزال مسائل الوضع المدنيّ من مهمّات الكنيسة اللوثريّة، في حين اعتُرف بإحدى عشرة ديانة أخرى، الأمر الذي يعني أنّ هذه الديانات يمكن أن تتلقّى دعماً ماليّاً لنشاطاتها الاجتماعيّة ولكن ليس من أجل ممارسة العبادة في حدّ ذاتها. الواقع أنّ الكنيسة اللوثريّة أصبحت
العلمانية
نشر في: 13 مارس, 2011: 05:36 م