بغداد / تبارك عبد المجيد
تبلغ نسبة ذوي الإعاقة في العراق نحو 13 في المئة من مجموع السكان، وهي من أعلى المعدلات في المنطقة، لكن هذه الشريحة الواسعة ما تزال تواجه تهميشًا ممنهجًا وغيابًا للعدالة والمساواة، من ضعف فرص التعليم والعمل، إلى انعدام البنى التحتية المناسبة وحرمان الكثيرين من الخدمات الأساسية. كما تتقاطع معاناة فئات مختلفة: المكفوفين، الصم، ذوي الإعاقة الحركية وقصار القامة، عند نقطة واحدة هي صعوبة الاندماج في مجتمع لم يوفر لهم بعد مقوّمات الحياة الكريمة.
لم تكن بداية فاطمة مع الأمومة عادية. يوم ولادة طفلتها الأولى تحوّل إلى لحظة فارقة قلبت حياتها رأسًا على عقب. تزامن المخاض مع يوم انتخابي، غابت فيه سيارات الإسعاف وانشغلت المستشفيات بغير مهمتها الأساسية. وسط تلك الفوضى، عانت فاطمة من عسر ولادة أدّى إلى اختناق طفلتها بسبب نقص الأوكسجين، تاركًا تلفًا دائمًا في خلايا دماغها. ومنذ تلك اللحظة، بدأت رحلة معاناة طويلة.
اليوم، ابنتها تبلغ الخامسة عشرة من عمرها، لكنها لم تنطق بكلمة واحدة، وما زالت أسيرة تأخر ذهني شديد. لم تدّخر فاطمة جهدًا في مراجعة الأطباء منذ أن كانت ابنتها في عمر تسعة أشهر، غير أن الأمل ظل يتبدّد أمام عينيها كلما سمعت التشخيص ذاته: لا تحسّن يُذكر.
وبعد سنوات، اكتشفت فاطمة أن ابنها الثاني يحمل اضطرابات في الدماغ. لكنه، بعكس شقيقته، استطاع أن يشقّ طريقًا مختلفًا؛ يدرس في الصف الرابع الابتدائي بإحدى مدارس التربية الخاصة. ورغم سنوات الكفاح، لم تجد فاطمة ما يعينها على الصمود. تقول بمرارة: «ماكو رعاية، ماكو مراكز متخصصة كافية، ولا حتى دعم نفسي أو اجتماعي. محد يسأل شنو نحتاج، حسّيت إحنا خارج حسابات هالدولة».
غياب العدالة والمساواة!
ذكر رائد العنبكي، ممثل منظمة اليقين للمكفوفين وضعاف البصر وعضو ممثلية ذوي الإعاقة في محافظة ديالى، أن الشرائح المختلفة من ذوي الإعاقة في العراق ما تزال تواجه تحديات كبيرة تحول دون اندماجها في المجتمع، مشيرًا إلى أن أبرز هذه التحديات تتمثل في غياب العدالة، وانعدام المساواة، وصعوبة الوصول.
وقال العنبكي لـ«المدى» إن شريحة ذوي الإعاقة البصرية تعاني منذ سنوات طويلة من ضعف فرص التعليم والعمل، فضلًا عن غياب الوسائل الميسّرة التي تمكّنهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي. وأضاف أن المناهج الدراسية لا تراعي احتياجات المكفوفين، وأن كثيرًا من المؤسسات الحكومية، ومنها دوائر الصحة، ترفض تعيين الخريجين منهم بحجة «عدم اللياقة الصحية»، رغم استحقاقهم الوظيفي.
أما شريحة الصمّ والبكم، فأوضح العنبكي أن معاناتها ربما تكون أشد، إذ تنحصر دراستهم في معاهد خاصة حتى مرحلة السادس الابتدائي، ما يحرمهم من إكمال التعليم الثانوي والجامعي، وبالتالي يضيّق عليهم مجال الحصول على فرص عمل. وبيّن أن القطاعين العام والخاص لا يلتزمان بتطبيق قانون تشغيل ذوي الإعاقة بنسبة 3%، فيما تقتصر أجورهم على مبالغ زهيدة، دون توفير أي خدمات خاصة بهم، بما في ذلك الإشارات والعلامات المرورية التي تساعدهم في حياتهم اليومية.
وأشار العنبكي إلى أن ذوي الإعاقة الحركية يواجهون معضلة البنى التحتية المتهالكة في العراق، حيث تفتقر المباني الحكومية إلى الممرات والمصاعد المخصصة لهم، ما يحرمهم من الوصول إلى مواقع العمل. وأضاف أن حرمانهم لا يتوقف عند هذا الحد، بل يمتد إلى التعليم، إذ يُحرم كثير منهم من الدراسة بسبب نظرة المجتمع والتنمر الأسري والمدرسي، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض مستوى تحصيلهم العلمي. كما تطرّق إلى شريحة قصار القامة، موضحًا أنهم يعانون من التهميش والتسرب الدراسي نتيجة التنمّر المستمر، إضافة إلى افتقار المؤسسات إلى البنى التحتية التي تراعي احتياجاتهم، حتى في أبسط المعاملات اليومية داخل الدوائر الرسمية، حيث يواجهون صعوبة في الوصول إلى النوافذ المخصصة للمراجعات، ما يضعهم في مواقف محرجة.
وتابع العنبكي حديثه بالتأكيد على أن القاسم المشترك بين جميع شرائح ذوي الإعاقة في العراق هو «غياب العدالة، وانعدام المساواة، وصعوبة الوصول»، داعيًا إلى إصلاحات حقيقية في القوانين والبنى التحتية لضمان حقوقهم وتعزيز مشاركتهم في المجتمع.
نقص التمويل والتخصيصات التشغيلية!
في محافظة الديوانية، تواصل دائرة ذوي الاحتياجات الخاصة أداء مهامها اليومية رغم التحديات الكبيرة. ويقول د. سامر سمعة، مدير الدائرة، إن طبيعة عملهم تتوزع بين توفير المستلزمات المدرسية الأساسية مثل القرطاسية والمنظفات، إضافة إلى متابعة أعمال الصيانة داخل الصفوف والحدائق، ما يجعل دور الدائرة قريبًا من مهام المدارس في رعاية الطلبة وتهيئة بيئة مناسبة لهم.
غير أن حجم التحديات، كما يصفها سمعة لـ«المدى»، يفوق الإمكانات المتاحة. ففي عام 2024 لم تُطلق التخصيصات التشغيلية أو صُرفت بنسبة محدودة جدًا، وهو ما شكّل عائقًا أمام تقديم خدمات أكثر كفاءة وتلبية احتياجات الطلبة بصورة أفضل.
ويشير إلى مشكلة جوهرية أخرى تتعلق بالمناهج الدراسية، إذ إن المناهج المعتمدة حاليًا أُعدّت في الأصل لطلبة الأسوياء، وهو ما يجعلها غير منسجمة مع قدرات واحتياجات ذوي الإعاقة. ويؤكد أن الحل يكمن في صياغة مناهج خاصة تراعي هذه الفئة وتنسجم مع الرؤية التربوية العامة للدولة، وتتماشى في الوقت ذاته مع الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2021.
ويضيف سمعة أن غياب المناهج الملائمة يحرم الطلبة من خوض الامتحانات الوزارية (البكالوريا) وبالتالي من الحصول على شهادات رسمية معترف بها من وزارة التربية، وهو ما يقلل من فرصهم المستقبلية في الحصول على وظائف ضمن مؤسسات الدولة.
وبرأيه، فإن إطلاق التمويل اللازم وإعداد مناهج تعليمية متخصصة يمثّلان المدخل الأساسي لتمكين هذه الفئة من حقها في التعليم والعمل، وضمان دمجها في المجتمع بصورة عادلة وفاعلة.










