متابعة المدى
أكثر من عامين من الصراع المسلح في السودان دمّرا قطاع الزراعة في البلاد، مما خفّض إنتاج الغذاء وأغرق ما يقرب من نصف السكان في أزمة جوع غير مسبوقة.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن نحو 24 مليونًا و600 ألف سوداني يواجهون الآن «انعدامًا شديدًا في الأمن الغذائي أو أسوأ»، بينما يعيش نحو 637 ألفًا في ظروف شبيهة بالمجاعة، وهو المستوى الأكثر كارثية من الجوع.
وأكدت منظمة الصحة العالمية، يوم الجمعة، وجود مجاعة في أجزاء من البلاد. وقبل أيام، ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان «أوتشا» في تدوينة على منصة «إكس» أن السودان يواجه أكبر أزمة غذاء في العالم.
وقال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، السبت، «إن السودان يواجه أزمة غذاء ومجاعة مؤكدة في أجزاء من البلاد». وأوضح غيبريسوس في تدوينة على منصة «إكس» أن الوضع يتفاقم بشكل خاص في منطقة شمال دارفور غربًا، حيث تخضع مدينة الفاشر لحصار منذ أكثر من 500 يوم.
ودعا غيبريسوس إلى فتح باب المساعدات الإنسانية فورًا وبشكل آمن ودون عوائق إلى الفاشر، لتلبية الاحتياجات الصحية المتزايدة وإنقاذ الأرواح. يأتي هذا بينما لا تزال الفاشر تشهد معارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حيث أعلنت شبكة أطباء السودان، وهي شبكة مستقلة، الثلاثاء، مقتل 18 مدنيًا وإصابة أكثر من 100 آخرين جراء قصف مدفعي لقوات الدعم السريع.
كانت الزراعة، التي شكّلت يومًا العمود الفقري لاقتصاد السودان، قد شُلّت بفعل القتال الواسع الذي دمّر أنظمة الري، وشرد المزارعين من أراضيهم، وترك مساحات شاسعة من الأراضي جرداء غير مزروعة.
ومنذ عام 2024، امتد الصراع إلى مناطق إنتاج الحبوب الرئيسية في وسط وجنوب شرق السودان، مما أدى إلى تقليص المساحات الصالحة للزراعة. وقد تضرر مشروع الجزيرة الزراعي، وهو أكبر منطقة زراعية مروية في السودان، بشكل خاص. وتقدّر السلطات المحلية أن الصراع تسبب بخسائر تتراوح بين 15 و20 مليار دولار.
رئيس مشروع الجزيرة الزراعي، خالد الدين، قال: «لقد تكبدت بنية مشروع الجزيرة الزراعي أضرارًا جسيمة خلال الصراع. فقد تضررت المنازل والمباني، ومرافق الري، والآلات الزراعية، وغيرها من المدخلات الزراعية على نحوٍ بالغ. تُركت مساحات واسعة من الأراضي بلا زراعة، بل حتى المكاتب الإدارية تم تدميرها».
وعلى الرغم من أن حدة القتال في الجزيرة قد خفّت منذ مطلع هذا العام، وبدأت العائلات النازحة بالعودة، إلا أن وتيرة التعافي ما تزال بطيئة.
فقد أدى نقص التمويل إلى تعطيل إصلاح الخزانات وأنظمة الري، مما جعل المزارعين غير قادرين على استئناف الإنتاج. ويصف السكان المحليون الأوضاع بأنها بائسة.
محمد عادل، أحد سكان المنطقة، قال: «كل شيء سيئ هنا، ليس لدينا مال، ولا طعام، وكل الإمدادات قد نفدت. ليس لدينا حتى مياه للشرب، إذ نَجلبها من النهر. هذه هي المعاناة التي نعيشها الآن».
ووصفت بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في السودان القتال الدائر في البلاد بأنه «حرب فظائع»، متهمة كلا الجانبين بارتكاب جرائم خطيرة ضد السكان المدنيين، مؤكدة أن «المدنيين ليسوا مجرد عالقين في تبادل النار، بل يجري استهدافهم عمدًا وتهجيرهم وتجويعهم. لقد ارتكبت كل من قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، وحلفاؤهم، جرائم حرب».
وقال رئيس البعثة محمد شاندي عثمان، الثلاثاء: «في حالة قوات الدعم السريع، فإن العديد من الأفعال ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الاضطهاد والإبادة».
وقالت عضوة البعثة، جوي نجوزي إيزيلو، إن المدنيين لا يقتلون ويهجرون فحسب، بل يجري حرمانهم عمدًا من وسائل البقاء على قيد الحياة. وأشارت إلى تدمير المستشفيات ومحطات الطاقة وشبكات الكهرباء والأسواق. وخلصت بعثة الأمم المتحدة إلى أن قوات الدعم السريع شبه العسكرية ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في الفاشر، آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور بغرب البلاد. ومع اشتداد الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع حول مدينة الفاشر، قالت مجموعة قليلة تمكنت من تحمل تكلفة الهروب إنها كانت تعيش تحت القصف المستمر وتفاوضت مع قوات الدعم السريع على نقاط التفتيش للخروج من المدينة، ولجأ سكانها إلى أكل علف الحيوانات.
وقالت دار السلام حامد، إحدى الهاربات: «الشخص الذي يحكي ليس كمثل الشخص الذي يرى بعينه، لكن نحن عانينا بجد في الفاشر».
وعندما قررت هي وعائلتها المغادرة، قالت إنهم تعرضوا للتفتيش الدقيق من جنود قوات الدعم السريع وللسرقة في الطريق.
وقال علي، وهو هارب، إنه وشقيقه تعرضا للضرب عند نقطة تفتيش عندما غادرا الفاشر فجرًا، بسبب ظروف المدينة والأوضاع المعيشية الصعبة.
وأوضح أن المغادرة لم تعد خطرة فحسب، بل أيضًا مكلفة، إذ يتطلب الأمر خمسة ملايين جنيه سوداني (حوالي 1600 دولار)، وقليلون هم من يملكون مالًا من الأساس. وقد حوّل أفراد من الدعم السريع عمليات الفرار، شأنها شأن التهريب، إلى نشاط تجاري مربح.
وأصبحت المدينة جبهة رئيسية في الحرب التي تسعى فيها قوات الدعم السريع إلى تعزيز سيطرتها على إقليم دارفور ليكون مقرًا لحكومة موازية. وأدى قادة تلك الحكومة اليمين الشهر الماضي وبدأوا قبل يومين في تعيين وزراء. ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، فر ما يقرب من مليون شخص من الفاشر منذ بدء القتال هناك في أيار 2024، بينما بقي فيها 270 ألف شخص. وحافظ الجيش والقوات المشتركة المتحالفة معه على سيطرتهم على الفاشر، ورغم تقدم قوات الدعم السريع بالقرب من مقر القيادة العامة الأسبوع الماضي، فقد شن الجيش في الأيام القليلة الماضية حملة بطائرات مسيرة دفعتها للتراجع.
وتتكون القوات المشتركة إلى حد بعيد من قبائل غير عربية، دائمًا ما كانت في تنافس مع القبائل العربية التي تشكل نواة قوات الدعم السريع، مما أدى إلى هجمات على أساس عرقي، ومنها خلال الاستيلاء على مخيم زمزم الشاسع للنازحين في نيسان.
وقال أحد السكان المدنيين إن قوات الدعم وسعت في الآونة الأخيرة متاريس وخنادق حفرتها لمسافة 31 كيلومترًا حول معظم المدينة، مما جعل من الصعب على المدنيين المغادرة وأجبر المهربين على حمل الإمدادات الغذائية سيرًا على الأقدام. وقال أحد المواطنين إن سعر الأمباز، وهو نوع من علف الحيوانات يلجأ إليه معظم الناس، قد ارتفع ستة أضعاف كلفته الأصلية وأصبح نادرًا.
ومنذ منتصف أبريل/نيسان 2023، يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حربًا أسفرت عن مقتل أكثر من 24 ألف شخص، ونزوح ولجوء نحو 15 مليونًا، بحسب الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدّرت دراسة أعدتها جامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفًا.










