TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: في مقهى بأمِّ البروم

قناطر: في مقهى بأمِّ البروم

نشر في: 14 سبتمبر, 2025: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

لا تقفُ الشَّحاذةُ عند منضدة صاحب المقهى بأمِّ البروم طويلاً؛ تفتح الباب الزجاج وتدخل، متضايقةً؛ من بُخْنقِها الأسود، يغطّي الفم والأنف والكفين؛ ويترك العينين بالحاجبين الغليظين تجولان؛ ليس بعيداً عن إباريق الشاي والاقداح وحشد الزجاجات بعصائرها الملونة، تستمرئ منظرَ الشاي بعبوة الماء البلاستيك، سنعرفُ بعد قليل؛ أنّها تريده الى أكثر من صاحب أو صاحبة لها، في بيت، شقةٍ، غرفةٍ ما بعشرة نائمين، لكنها الآن، تطيل الحديث مع المُقْهيْ –كان محمود عبد الوهاب قد اقترح اللفظ على القهوجي- وفي زاويةٍ قلَّ جلّاسُها ابتسمتْ للمقهي، كذلك كان هو، ثمة ألفةٌ بين الاثنين. هي تحمل الآن العبوة الحارةَ، ومن فتق في عباءتها أعطته ثمن الشاي ومضت، تحدِّثُ سريرها عن غِبطة ما بعد الظهيرة.
لا أحسنُ الحديث عن أمِّ البروم، الساحةَ والازقَّةَ والبيوتَ المهجورة التي سوّيتْ متاجرَ ودكاكين، الشاعرُ كاظم اللايذ أجدرُ مني بذلك، فمن (قبّته) ظلَّ يرصدها؛ قرابةَ نصف قرن، أشهدُ الله أنَّه سبرها شعراً وتأملات. لذا، سأعودُ الى شحّاذتي، لا لن أخلع عنها بخنقها ولا العباءة بالقفازين الاسودين، أريدها، من خلف الأشياء تلك، هي أجملُ، حتى أنَّ احداً لم يعبس بوجهها. يحدِّثها المُقهى عن شيء لا أسمعه، فيتضحُ من ضيق عينيها أنَّها تبتسم، هذا الحياءُ المشوبُ بالصَّلف، سؤالُ الناس الصدقاتِ، التوسُّلُ الزائفُ بالمارّة، الوقوفُ المائل عند مقاعد الجالسين، استدرار الإحسان المعطوف على التحرش أحياناً.. ثم أنَّها؛ ومن قماشة سوداء اخرى لُفَّتْ بعناية على عنقها راحت تبحث عن نقود أخرى، لعلها دَيْنٌ قديمٌ عند المقهى،كان الحديث اطول حين انصرف الزبائنُ، غير الفضوليين إلى أشيائهم. إذا كانت مقاهي أمِّ البروم في النهارات مقصداً لصغار التجّار؛ باعةِ المفرد وسواهم من أنصاف الموهومين بالشهرة، وللمثقفين والمتقاعدين أيضاً فهي في الليل مكان لإلتقاء شحّاذي المدينة، عوائلَ ونساءً ورجالاً وأطفالا، في الازقة الضيقةِ تلك سمةَ ما لا يرصد دائماً.
بائعُ اكسسوارات الهواتف ومصلّح أجهزة الكمبيوتر، والعابرُ الواثق من عكّازه الألمنيوم، والذي ينوءُ بحمل كيس الخضار والفاكهة، والسوريُّ المتغربُ بائع المكسرات والتين المجفف، ورهط آخرون ظلّوا يمرّون، خفافاً وثقالاً، يتوقفون أو يخطفون كما الضوء في يافطة الإعلان، وحده عاملُ المقهى الصغير دخل دورة المياه، ومكث طويلاً هناك، الصبيُّ الذي يعقد قميصه تحت سرته بقليل، وحده الآن يتأملُ قميصها الليلي. في الظلام بامِّ البروم، لا يجهلُ أحدٌ احداً، وكلّما انصرفت الساعةُ إلى الفجر صارَ العابرون والماكثون أصدقاءَ وأحبّة، فلا أحد يهتدي إلى مواطن باعة الخمرة، السكارى حسب هم من يملكون الخرائط، في كلِّ زقاق ثمة من يبيعك، ستعرفهم حين يركنون دراجاتهم، ومن وقوفهم المقلق، أمّا أصحابُ المطاعم فلا يفترون ساعةً، اللحمُ أسياخ أسياخ على الفحم، واللبنُ ابيضّ من نجمة في الشرق، وعتالو الليل يعرفون عتّالي النهار، سترى الشحاذين يفترشون الأرض في زقاق لا يفضي، هناك يعدُّ الرجالُ دنانيرَ النساء، فيما ينشغل الأطفالُ بالحلوى، وأكياس البطاطا المقلية بطعم السمّاق.
أُشغلُ نفسي بحديث المقاهي والشحَّاذين بأمِّ البروم، في الميل المربع الواحد هذا، بتعبير محمد خضير؛ وفي الزاوية الميتة؛ التي لا يعرفني فيها أحدٌ الآنَ، أنا المتأخرُ في ضلعها المهجور هذا، أنتظر حمزةَ العبدالله، سيأتي من(صحرائه)ماتزال الشُعَيبةُ مسكنه وموطنه، حتى أنّه اشتق اسم مكتبته من صحرائها البعيدة. تأخرَ حمزةُ، وكذلك مازنُ؛ صاحبُ هيدجر، وأنا مازلتُ أبحثُ في وجه شحّاذتي عن ليلٍ لا ينقضي؛ في غرفة ضيقةٍ؛ بعشرة نائمين.
من ساعتين ويزيد غادر المحزونون، المتقاعدون، المثقفون، أصدقائي مقهى الادباء، صارت ظهورهم الى بابتها؛ وتواروا في الاسباب، ولم يبق في الحائط سوى فضلة القماشة السوداء، باحرفها ذليلة الجبس، تنعى موت أحدهم، قلتُ لأتأخر في شاشة نشرة الاخبار، وفي سروال مذيعة الطقس بعد ذلك، علّني ابلغ من المدينة ما بلغهُ الشحَّاذون، والسَوَقَةُ ومطففو المكاييل، أولئك فهذه القطعة المهملة من الليل تروقني، حيث لا أحد يشغله امرُ الحكومة والمقاعد المقلوبة وصرير النوافذ البعيدة والجرذان وتأخرُ الصبح في هلال المئذنة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram