ترجمة المدى
يُعتقد أن ما يصل إلى 40 ألف طفل في غزة قد فقدوا أحد الوالدين على الأقل، بينما تواصل القوات الإسرائيلية هجومها الوحشي. أطباء وممرضون يقولون إن كثيرًا من هؤلاء الأطفال يصلون إلى المستشفى وحدهم.
في مستشفى ناصر جنوب غزة، جلست الممرضة المتخصصة في حالات الصدمات، اليداليس بورغوس، بجانب جثة الرضيع خالد البالغ من العمر عامًا واحدًا. وبينما كان الأطباء من حولها يسارعون لمعالجة الضحية التالية، سألت: من سينقل الطفل إلى الطب العدلي؟ فأجابها أحدهم: «لا أحد». وقد أطلق الأطباء على الطفل اسم خالد لأنه بلا عائلة معروفة. تتذكر بورغوس، وهي ممرضة أمريكية تبلغ 44 عامًا وعملت في غزة خلال الصيف الحالي، التجربة «السريالية، خارج الجسد» عندما حملت خالد إلى قاعة الطب العدلي على بعد 800 متر. وهناك وضعته في ثلاجة مليئة بجثث أخرى. وتقول للإندبندنت: “وجدت نفسي أربت على ظهره الصغير كما لو أني أحاول أن أنيم طفلًا. كنت أذكّر نفسي مرارًا: أنت لا تُنَوِّمه، إنه جثة. كان الأمر مروعًا.”
خالد ليس سوى ضحية أخرى للهجوم العسكري الإسرائيلي المتواصل على القطاع، الذي توسَّع مؤخرًا ليشمل مدينة غزة. المستشفيات التي تكافح بالفعل لعلاج الأعداد الضخمة من الضحايا تعرضت بدورها للاستهداف من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي؛ فقد قُتل أطباء وصحفيون وعمال إغاثة. وأمرت إسرائيل بإخلاءات جماعية من مدينة غزة، مصحوبة بقصف مكثف للأبراج السكنية العالية التي تزعم أنها تؤوي بنية تحتية تابعة لحماس. ومع تكثيف القصف، تحاول قوات الاحتلال دفع الفلسطينيين نحو منطقة المواصي جنوبًا، التي سبق أن قُصفت مرّاتٍ رغم إعلانها “منطقة آمنة”.
وقالت منظمة أطباء بلا حدود يوم الخميس الماضي إن الهجوم المتوسع وضع النظام الصحي “على شفا الانهيار”، محذرةً من أن التصعيد في مدينة غزة قد يؤدي إلى إغلاق 11 مستشفىً من أصل 18 تعمل بشكل جزئي في القطاع. الأطفال، الذين يعانون أصلًا من المرض والمجاعة، يصلون إلى هذه المستشفيات بإصابات مروعة وأمراض خطيرة لكن دون عائلة أو أحبة إلى جانبهم، كما يؤكد الأطباء للإندبندنت.
تقول الطبيبة الأسترالية سارة حسين، بعد عودتها من شهر عمل في غزة: “غالبًا ما يصل هؤلاء الأطفال — وأعني من عمر عامين فما فوق — دون وجود أي شخص بالغ معهم. قد يكون هناك طفل بمفرده على نقالة بدائية، بإصابات مروعة، ينتظر دخوله غرفة العمليات.”
في مايو/أيار أعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من 50 ألف طفل قد قُتلوا أو جُرحوا منذ أن بدأت إسرائيل حملتها العسكرية في أكتوبر 2023. كما يعاني الأطفال من سوء التغذية الحاد، حيث وجدت الأمم المتحدة في تموز نحو 12 ألف طفل دون سن الخامسة مصابين بسوء التغذية الحاد، بينهم أكثر من 2500 يعانون من سوء تغذية شديد. وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن هذه الأرقام على الأرجح أدنى من الواقع.
تقرير من جهاز الإحصاء الفلسطيني في نيسان ذكر أن أكثر من 39 ألف طفل في غزة فقدوا أحد الوالدين أو كليهما منذ بداية الحملة الإسرائيلية، وخلص التقرير إلى أن غزة “تعاني من أكبر أزمة أيتام في التاريخ الحديث.”
تروي د. حسين عبر الهاتف كيف كان الأطفال يُساقون إلى غرف العمليات لإجراء جراحاتٍ حَرِجةٍ ومنقِذةٍ للحياة بينما أهاليهم إما مفقودون أو مصابون أو قُتلوا. في إحدى ليالي تموز، تتذكر د. حسين وصول فتاة في الثانية عشرة من عمرها إلى المستشفى بحاجةٍ عاجلةٍ إلى جراحة في المريء. وتقول: “كانت هناك أنابيب تخرج من رئتيها الاثنتين، وبطنها ممزقة، والفضلات تتسرب منها، لم يكن معها أحد. وُضِعَت على عجلٍ في الممر ثم تُركَت. يمكنك أن تتخيل الخوف والألم الذي كانت تعيشه.”
أما طفل آخر، يبلغ نحو ثلاث سنوات، فقد أصيب بحروقٍ بالغة. وخلال زياراتٍ متعددةٍ لتغيير ضماداته، لم ترِ الطبيبة أي قريبٍ معه. تقول: “كان مستلقيًا غير قادرٍ على الحركة، يئن طالبًا والده. هذا كل ما كان يقوله. رأيته ثلاث مرات، وفي كل مرة كان وحيدًا ويكرر نفس الشيء ذاته. لم يكن هناك أي شخصٍ بجانبه.”
يؤكد رئيس قسم طب الأطفال في مستشفى ناصر، الطبيب أحمد الفرا، أن الأطفال غالبًا ما يموتون في المستشفى وحدهم. ويقول جهاز الإحصاء الفلسطيني إن ما يصل إلى 40 ألف طفل فقدوا أحد الوالدين أو كليهما. توضح الممرضة بورغوس أن علاج الأطفال الذين يصلون بمفردهم أصبح “أمرًا اعتياديًا بسبب ضخامة القصف”. وتضيف: «العائلات تُباد بأكملها دفعةً واحدةً.»
في مستشفى ناصر، حيث يعيش كثير من النازحين هربًا من القصف الإسرائيلي، تصدح الممرات بأصوات عشرات الأطفال الذين لا ملجأ لهم. تقول بورغوس: “في كل ممر، يركض الأطفال إليك يطلبون طعامًا وماءً. لا أعرف إن كانوا مع عائلاتهم أم وحدهم. لكنهم موجودون في كل مكان.” من جانبها قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إن معدلات سوء التغذية بين الأطفال في قطاع غزة تزداد بوتيرةٍ مقلقة، وأن أحدث البيانات تظهر تسجيل نسبةٍ غير مسبوقةٍ في آب/أغسطس للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد ممن تم فحصهم. كاثرين راسل، المديرة التنفيذية لليونيسيف، قالت إن واحدًا من بين كل 5 أطفال في غزة تم تشخيصه بسوء التغذية الحاد خلال شهر آب، وكان بحاجةٍ إلى الدعم التغذوي الإضافي المنقذ للحياة الذي توفره اليونيسيف.
وترتكب إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023 إبادةً جماعيةً بغزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلةً النداءات الدولية كافة وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها. وخلفت الإبادة أكثر من 64 ألف قتيل وأكثر من 163 ألف جريح، معظمهم أطفال ونساء، مع مئات آلاف النازحين، ومجاعةٍ أزهقت أرواحَ 411 مواطنًا بينهم 142 طفلًا.
عن صحف ووكالات عالمية










