علي بدر
في خريف عام 2025، استقبلت بيروت معرضًا فرديًا للفنان العراقي ـ الفنلندي عادل عابدين بعنوان "ما تبقّى" في غاليري تانيت، بإشراف وتنسيق الدكتورة تمارا الجلبي. وقد امتدّ المعرض من العاشر من أيلول حتى الثالث والعشرين من تشرين الأول، مثّل عودة لافتة للفنان إلى اللوحة بعد سنوات من انشغاله بالفيديو والتركيب، ليقدّم رحلة بصرية عميقة في الذاكرة والخراب والنجاة.
اعتمد عابدين في هذا المعرض على الأفق كعنصر محوري، ليس فقط باعتباره خطًا بصريًا يفصل السماء عن الأرض، بل بوصفه مجازًا للحدّ الفاصل بين الماضي والحاضر، بين الكارثة وما بعدها، بين الخسارة وما يبقى منها. لوحاته الكبيرة، المنفّذة بألوان الأكريليك، جاءت مشبعة بتوتر بصري، حيث تتقاطع المساحات المضيئة والظلال الكثيفة لتشيع شعورًا بالقلق والتأمل في آن واحد.
من أبرز الأعمال لوحة ثلاثية بعنوان انجراف، تُظهر سفينة محطّمة ممتدة على ثلاث لوحات. المشهد الممزّق يوحي بالهجرة القسرية والشتات والمصائر المبعثرة، غير أنّ حضور الأفق يمنح المشاهد خيطًا من الأمل في وحدة المعنى. وفي عمل آخر بعنوان نازحون، بدت الخيمة كمأوى مضيء، لكنها في الوقت نفسه أشبه بسراب يلاحق اللاجئين والمشرّدين. أما لوحة فوق الهاوية، فقد جسّدت أجسادًا معلّقة على الحافة، تعكس لحظة التردد بين البقاء والانزلاق في المجهول.
اللافت في المعرض أنه لم يقتصر على استدعاء صور الخراب، بل طرح سؤالًا جوهريًا: ماذا يبقى؟ لقد حوّل عابدين الذاكرة نفسها إلى عنصر فعّال في إعادة البناء. فما يبقى ليس مجرد أنقاض، بل شواهد قادرة على إنتاج معنى جديد، وتذكير بأن النجاة لا تأتي من النسيان بل من مواجهة الفقد.
تنسيق تمارا الجلبي أضفى على العرض بعدًا تأويليًا متماسكًا، إذ جعل تجربة المشاهدة عبورًا بين اللوحة والتركيب، بين المشهد المادي والدلالة الميتافيزيقية. ومن هنا، قدّم المعرض رؤية لا تخص العراق وحده، بل تعبّر عن حالة إنسانية عامة: الفقد والنزوح ومحاولة ترميم الذات بعد الكارثة.
ويمكن القول إن ما تبقّى لا يعرض صورًا معزولة، بل يبني سردًا تشكيليًا متواصلًا، حيث تتجاوب الأعمال مع بعضها البعض لتكوّن فضاءً واحدًا للذاكرة والبحث عن النجاة. هنا يصبح المعرض بمثابة شهادة بصرية على زمننا، إذ يلتقط لحظة إنسانية قلقة معلّقة بين الاندثار والبقاء، بين الخراب وإمكانية انبعاث جديد. بهذا المعنى، يؤكد المعرض أن الفن ليس مجرد تمثيل جمالي، بل ممارسة مقاومة تحفظ الذاكرة وتحوّل الألم إلى طاقة لإعادة التخيّل.










