ترجمة: نجاح الجبيلي
يقدّم جيم جارموش في فيلمه الجديد" أب، أم، أخت، أخ ""Father Mother Sister Brother" ثلاث حكايات قصيرة متجاورة عن العائلة، تتسم بالهدوء والبطء، لكنها مشحونة بأسئلة دفينة عن الروابط الأسرية وما يظلّ عالقاً بين الآباء والأبناء بعد سنوات من الفقد والجفاء. المخرج، المعروف بكونه "شاعر السينما البطيئة"، يبتعد هنا عن أي حبكة درامية صاخبة أو حلول سهلة، ليقدّم عملاً أقرب إلى تأملات سينمائية في العلاقات الإنسانية، حيث لا يحدث الكثير ظاهرياً، لكن كل شيء يتكشّف في ما بين السطور، في الصمت والغياب، وفي ما لا يُقال.
جارموش كتب الفيلم في ثلاثة أسابيع فقط، ووصفه بأنه "فيلم مضاد للأكشن"، لكن الناقد رايان لاتانزيو يرى أن في داخله "أكشن" من نوع آخر: حركة عاطفية تحت السطح، توترات مكتومة، انفعالات مكبوتة، كلّها تقطع المشاهد كضربة سيف دقيقة في "زمن بطيء"، مدعومة بموسيقى من تأليف المخرج نفسه، تحثّ المتلقي على التوقف والتأمل في التفاصيل الصغيرة، أو حتى في لقطات مراهقين يؤدون حركات تزلج بطيئة.
تدور كل حكاية في مكان مختلف وتجمع بين أبناء آباء وأمهات متقدمين في العمر.
في القصة الأولى "Father"، يظهر آدم درايفر ومايم بياليك كأخ وأخت يزوران والدهما (توم وايتس) بعد عزلة طويلة. الزيارة أشبه بتحقيق رسمي بارد منها إلى لقاء عائلي حميم، حيث يطغى على الأجواء شعور بالمسافة العاطفية، بينما تظل ذكرى انهيار الأب في جنازة الأم حاضرة بين السطور. لكن جارموش يترك النهاية بلا مصالحة أو حلّ.
القصة الثانية "Mother" تجري في دبلن، حيث تلتقي أختان (كيت بلانشيت وفيكي كريبس) بوالدتهما (شارلوت رامبلنغ) لشاي بعد الظهر. إحدى الأختين مؤثرة على مواقع التواصل تعاني مشاكل مالية رغم مظهرها الفخم، بينما الأخرى أكثر اتزاناً، والوالدة تبدو ككاتبة حكيمة، متصالحة مع حياتها، لا ترغب سوى في أن تبقى الأمور هادئة بلا نبش للماضي. رامبلنغ تقدّم أداءً لافتاً يمزج البساطة بالعمق.
في القصة الثالثة "Sister Brother"، يلتقي توأمان (إنديا مور و لوكا سابات) في باريس ليخوضا تجربة "جرعة صغيرة" من مخدر السيلوسايبن، فيما يستعرضان أغراض والديهما اللذين قضيا في حادث طائرة. هذه القصة تبدو أكثر وضوحاً من حيث البنية الدرامية، لكنها تختتم الفيلم بنغمة حنين، تحمل بعض الأمل والإيمان بالإنسانية.
ويؤكد الناقد لاتانزيو: أن الفيلم لا يقدّم خلاصات نفسية جاهزة ولا يتبنى مسار "علاج عائلي"، بل يطرح سؤالاً صعباً: ماذا لو كان الأوان قد فات على إصلاح ما انكسر بين الآباء والأبناء؟ يترك جارموش الباب موارباً، مشيراً إلى أن العلاقة بالوالدين قد لا تكون دائماً محكومة بالحب الخالص، بل بمجرد رابطة بيولوجية أو اجتماعية تُبقي الأفراد متصلين، حتى لو غاب الشعور العاطفي الحقيقي.
في النهاية، فإن هذا الفيلم يعبر من خلال الصمت أكثر من الكلام، وعن الغياب أكثر من الحضور، وعن المسافة التي لا تُردم بسهولة. إنه فيلم يتطلب صبراً وإصغاءً لإيقاعه الهادئ، لكنه يكافئ المشاهد بجرعة من الصدق والشفافية حول طبيعة الروابط العائلية وما يبقى منها مع مرور الزمن.
"جيم جارموش" شاعر السينما البطيئة

نشر في: 18 سبتمبر, 2025: 12:14 ص









