كارين كريستنسن – دالسجارد
ترجمة: رمزي ناري
تم في القاهرة خلال القرن الحادي عشر وضع أسس العلم الحديث عبر حادثة غير متوقعة. كلّف الخليفة الفاطمي عالم الرياضيات أبو علي الحسن بن الهيثم بمهمة تنظيم جريان نهر النيل. وعندما رأى النهر، الذي شكّل 4000 عام من الحضارة الإنسانية، أدرك صعوبة هذه المهمة.
لتجنب غضب الخليفة الفاطمي في مصر، زُعم أن ابن الهيثم تظاهر بالجنون، ووُضع تحت الإقامة الجبرية، مما أتاح له الوقت للتركيز على علم البصريات. ومن ثم، طوّر ابن الهيثم منهجًا علميًا قائمًا على التجارب والرياضيات. لم يقتصر هذا التغيير على تعديل فهم البشر لعلم البصريات وكيفية رؤية أعيننا فحسب، بل أسس لاحقًا للعلم التجريبي في أوروبا.
تقول الكاتبة: "عندما بدأتُ بتدريس تاريخ علم الأحياء، كنتُ غالبًا ما ألاحظ تقليص أهمية هذه الفترة المحورية من تاريخ العلم عند تحليلها من منظور غربي. لقد أظهرت لي دراسة إسهامات العلماء غير الغربيين كيف يمكن لتاريخ العلم أن يعلمنا الكثير عن قيمة التعددية الثقافية."
النسخة الأوروبية المركزية من تاريخ العلم
القصة السائدة في الغرب تقول إن العلم تم ابتكاره في اليونان القديمة، ثم تطوّر في أوروبا الغربية على مدار خمسمائة عام، بعد نحو ألف عام من العصور المظلمة فكريًا.
ورغم أن ثقافات أخرى ساهمت بأفكار بارعة هنا وهناك، مثل اختراع الورق أو تطوير نظامنا العددي الحديث، إلا أن العلم كما نعرفه اليوم يُعتبر تطورًا أوروبيًا محضًا، حيث كان الرجل الأبيض هو المحور الأساسي في هذا التقدم. وهكذا، تصبح القصة سردًا عن تفوق غربي يستدعي الامتنان.
تظهر آثار هذه الطريقة في التفكير في المشهد الجيوسياسي المعاصر. إذ تؤثر على كيفية تفاعل العديد من القادة الغربيين مع الثقافات الأخرى، مما يمنحهم، على ما يبدو، الحق في نشر سلطتهم الفكرية دون الحاجة للاستماع إلى الآخرين. وتساهم هذه العقلية في التقليل من شأن الحضارات الأخرى، مما أدى إلى قرون من العنف الاستعماري.
تتجاهل هذه النسخة الأوروبية المركزية من تاريخ العلم بعضًا من أهم الأحداث التي شكّلت التفكير الحديث. لم يُطوّر العلم على يد أفراد فقط، بل عبر عملية عالمية معقدة جمعت أفكارًا وتجارب ونُهجًا من جميع الحضارات الكبرى.
على سبيل المثال، كانت للعلوم اليونانية القديمة دور محوري في تطوير العلم، لكنها لم تكن غربية بامتياز. فالإمبراطورية اليونانية كانت تمتد عبر معظم منطقة البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. سافر العلماء على نطاق واسع، وانتقلت مراكز العلم مع مرور الوقت من إيونيا في تركيا الحالية، على سبيل المثال، إلى أثينا ثم إلى الإسكندرية في مصر.
تأثرت الفلسفة الطبيعية اليونانية بالإنجازات الرياضية والفلكية للبابليين وبالتقاليد الطبية للمصريين. وفي وقت لاحق، حقق علماء الإسكندرية تقدمًا هائلًا في علم التشريح البشري عندما تجاوزوا نفور اليونانيين من التشريح، وهو ما يُحتمل أن يكون قد تأثر بالتقاليد المصرية. وبهذا الشكل، وُلدت الفلسفة الطبيعية من دمج هذه التقاليد العلمية.
أهمية اختبار الأفكار
في نفس السياق، كان ابن الهيثم أحد العلماء الذين انخرطوا، خلال العصر الذهبي للإسلام، في مهمة ضخمة تمثلت في ترجمة ودمج وتطوير معارف العالم في نصوص موسوعية كبيرة. لقد أعجبوا بالعلوم والتقنيات الهندية والصينية، لكنهم ظلوا مخلصين لنهج اليونانيين القدماء.
بينما كانت للعقلية اليونانية فضل في تطوير العلم، إلا أنها نبذت فكرة إجراء التجارب، معتقدة أن تطوير الأدوات هو من عمل العبيد.
من جهة أخرى، أكّد العديد من العلماء العرب على أهمية اختبار الأفكار تجريبيًا، وطوروا الأدوات العلمية والجراحية التي ساعدت على تحقيق تقدم كبير.
لذا يمكن القول إن العلماء العرب وضعوا الأسس للعلم الحديث من خلال تطويرهم منهجية التجريب المُراقب، وتطبيقها على العلوم اليونانية، مع دمج المعرفة والتقنيات من جميع أنحاء العالم المتاح.
في وقت لاحق، ساعدت الترجمات اللاتينية للنصوص العربية على نمو العلم في الغرب، مما ساهم في "إحياء" العلم بعد العصور الوسطى الكاثوليكية. أصبحت نصوص مثل "القانون في الطب" لإبن سينا نصوصًا دراسية أساسية في جميع أنحاء أوروبا لعدة قرون.
وقد ألهم ابن الهيثم علماء مثل روجر باكون للعمل على تطبيق المنهج العلمي في أوروبا، مما أسهم اخيرا في الثورة العلمية عبر القارة الأوروبية.
أهمية التبادل الثقافي
في بداية القرن السادس عشر، كانت هناك حضارات عظيمة في جميع أنحاء العالم، في إفريقيا والشرق الأوسط والأمريكتين وشرق آسيا. وكانت معظم هذه الحضارات قد تفوقت على الغرب في بعض المجالات على الأقل. يُقال إن المعرفة كانت أعظم ما أخذه الأوروبيون من بقية العالم. على سبيل المثال، استند أول لقاح تم تطويره إلى تقنيات التجدير، أي التلقيح بحمة الجدري، التي كانت قد طُوِّرت في الصين والهند والعالم الإسلامي. كان الناس يُلقحون ضد الجدري عن طريق نفخ القشور المجففة المطحونة في أنوفهم أو فرك القيح في الجروح السطحية.
كان الأوروبيون يعتقدون أن الأمراض ناجمة عن الهواء الفاسد (الميازما)، ولذلك لم يثقوا بهذه التقنية في البداية. لكن عندما شاهدت الأرستقراطية الإنكليزية ليدي مونتاجو فعالية هذه الطريقة في القسطنطينية أوائل القرن الثامن عشر، أوصت بأن يتم اختبارها في إنكلترا.
بعد 80 عامًا، طوّر الطبيب الإنكليزي إدوارد جينر لقاحًا يعتمد ببساطة على نفس تقنية التطعيم، لكن بطريقة أكثر أمانًا باستخدام جدري البقر.
لا ينبغي أن تكون أهمية التبادلات الثقافية مفاجئة. فالبيانات العلمية والملاحظات يجب أن تكون موضوعية في أفضل الأحوال، لكن الأسئلة التي نطرحها والاستنتاجات التي نستخلصها تظل ذاتية، مشكّلة بناء على معرفتنا السابقة ومعتقداتنا وتجاربنا الماضية. يمكن للثقافات المختلفة أن تساعد بعضها البعض على رؤية ما يتجاوز تحيزاتها المتأصلة، والنمو إلى ما وراء القيود الفكرية التي تفرضها المقاربات الفردية.
في كتابها "ضفائر عشب الربيع"، تقدم عالمة النبات والكاتبة روبين وول كيميرر، من قبيلة بوتاواتومي، مثالًا رائعًا على ذلك في سياق كيفية إسهام المناهج الأصلية في إثراء العلم الحديث.
إن من أبرز هبات كندا هو تنوعها. هناك، تلتقي الثقافات من جميع أنحاء العالم، مشكّلة بذلك تنوعًا فكريًا قادرًا على حل العديد من مشاكل عالمنا. ومع ذلك، لا يكتسب هذا التنوع قيمته إلا إذا استطعنا التواصل والتعلم من بعضنا. عندما ندافع عن تنوع الأفكار في المناهج الدراسية، سواء على الصعيدين الوطني أو الدولي، فإننا نعزّز مستقبلًا قائمًا على معرفة الشعوب والثقافات في جميع أنحاء العالم.
لا يوجد شيء أكثر شخصية من الأفكار التي تدور في رأسك، وتلك التي لم تخطر ببالك، ومع ذلك لم تكن أنت من صاغها. إنها استمرار للمعرفة والأفكار التي سافرت عبر الكرة الأرضية لآلاف السنين، وشكّلتها عقول لا تُحصى من جميع الحضارات. في زمن يبدو فيه أن الانقسام متزايد، ينبغي أن يكون هذا التفكير هو الذي يجمعنا جميعًا معًا.










