حسين علي الحمدانيفي يوم 16 آذار عام 1988 كان الربيع يشق طريقه في مدن العراق التي اعتادت أن تلبس الأخضر ، واعتادت الأزهار أن تتنفس صباحا عبق الحياة برفقة العصافير التي تسحب خيوط الشمس بمنقارها .. لكن في هذا اليوم لم يكن ثمة ربيع ، وليست هنالك عصافير وحتى الشمس أشاحت بخيوطها بعيدا عن مدينة عراقية أسمها حلبجة ، كانت تضم كل الربيع بين طيات أرضها الطيبة .
في مدينة حلبجة كان المشهد مختلفاً في يوم 16 آذار عام 1988 في ذلك اليوم أرتكب النظام القمعي الشوفيني في العراق جريمة بشعة لا مثيل لها بحق أبناء شعبنا العراقي في مدينة حلبجة عبر قصفها بالأسلحة الكيمياوية المحرمة دوليا.وهذه الجريمة التي مرت في حينها حتى على المجتمع الدولي ولم ينظر إليها بأبعادها الإنسانية وتأثيراتها على سكان المدينة ولم ينظر لها من الناحية القانونية كجريمة بشعة أرتكبها النظام البعثي القمعي ضد الشعب ، بل تجاوزها العالم ولم يلتفت لها بحكم العلاقات والمصالح الدولية وارتباطات النظام الشوفيني آنذاك بالدول والتي زودته بهذه الأسلحة المحرمة دوليا وهي تدرك جيدا بأنه سيستخدمها ضد الشعب العراقي بحكم طبيعة هذا النظام المارق وسلوكياته التي تبيح له استخدام ما يتيسر تحت يديه لقمع الشعب ولن يتردد لحظة واحدة في ذلك .ونجد بأن النظام المباد طالما استخدم العقاب الجماعي ضد الناس ، ضد المدن ، ضد الشعب ، كان ينظر لكل الأشياء على إنها عدو له ، لهذا لم يفكر أحد من أزلامه لحظة واحدة بأن ما أقدم عليه في حلبجة قد أودى بحياة آلاف الناس معظمهم من الأطفال والنساء .وحلبجة المدينة ، نهضت لتروي قصة استشهادها على يد الطاغية ، نهضت بعد أن ضمدت جراحاتها ، نهضت لتحكي قصة شهادتها وتروي لكل العالم عن الدخان الأصفر والروائح الكريهة والغازات التي ملأت أجواءها الربيعية الجميلة وحولتها لمدينة أموات لا حياة فيها .لم تكن قصة حلبجة معروفة للعام لحظة حدوثها أو بعد ذلك بعام أو عامين ، لكن هذه المدينة بدأت تروي قصتها منذ نهاية عام 1991 فتجول أبناؤها المصابون بفعل الغازات في كل مدن العالم ليحكوا للشرفاء عن هذه الجريمة وليجدوا العلاج المناسب لما أصابهم جراء هذه الجريمة التي روعت العالم بمآسيها ، كان العالم مصدوما وهو يكتشف هذه الوقائع التي ساهمت بعض الدول فيها بطريقة أو بأخرى ، منها من زودت نظام المقبور صدام بالغاز السام والقنابل المدمرة ومنها من سكتت ومنها من أشاحت بوجهها عن رؤية شعب يموت ومدينة تغتال في عز ربيعها .اليوم حلبجة عروس العراق ، ربيع العراق بعد أن اقتصت من المجرمين ليس تشفيا أو انتقاما بقدر ما هو قصاص عادل من مجرمين لم يترددوا لحظة واحدة بأن يصدروا أوامرهم بإعدام مدينة بسكانها وأشجارها وعصافيرها وأورادها وكأنهم لا يحملون حواس تشم وترى وتسمع فكانوا يستحقون أن يعاقبوا عدة مرات لأنهم ارتكبوا في حلبجة أكثر من جريمة .اليوم تزهو هذه المدينة بسواعد أبنائها وهي ترى العراق بكامله تحرر من قبضة الطاغية ويسير قدما في بناء دولة المواطنة بعد أن تهدمت دولة الخوف ، وطن يعيش فيه الجميع متحابين بعد أن فرقهم الطاغية وأزلامه لفرق وقوميات ومذاهب ووضع الحواجز النفسية بينهم ، حلبجة اليوم تتغنى بالعراق كما يتغنى العراق بها ، ضمدت جراحاتها وقرأت الفاتحة على شهدائها وها هي اليوم تؤكد حقيقة أزلية مفادها بأن المدن أمهات باقيات ، لم يشعر أي طفل في حلبجة بأنه فقد أمه وأباه بغازات المقبور صدام ، الجميع كان ينظر لحلبجة إنها أم حنونة ولم يشعروا باليتم طالما مدينتهم لم تمت ، المدن لا تموت فقط الطغاة يذهبون إلى مزبلة التاريخ ولكن المدن تظل هي التاريخ وتظل هي عنوان الحياة .في ذكرى حلبجة اليوم علينا أن نتعلم الدروس وأن نؤمن وطننا وشعبنا من أن لا نسمح بعودة الدكتاتوريات تحت أية تسمية كانت كي يظل الربيع منتشرا في مدننا التي دفعت خيرة شبابها ثمنا للحرية التي نتطلع جميعا أن نرى راياتها ترفرف في بلادنا التي آن لها أن تنعم بالحياة الحرة الكريمة وان تغادر سلم الدول الضعيفة تنمويا وترقي بشعب العراق للعلا .
يــوم تنفسـت حلبجـة الكيميــاوي
نشر في: 15 مارس, 2011: 04:51 م