د. يوسف حمه صالح مصطفى
يُعَدّ الزمن أحد المفاهيم الجوهرية في علم النفس الوجودي، إذ يُشكل الوعاء الذي تُبنى فيه تجارب الإنسان ومعاناته. غير أن الزمن، في أدب كافكا، يتحول من بعدٍ محايد إلى بيئة خانقة تولّد القلق، والعزلة، والشعور باللاجدوى.
إن “إيكولوجية الزمن المرعب” تعبير عن نسق نفسي-وجودي يعيش فيه الفرد تحت وطأة زمنٍ غير قابل للتحكم، فيما تمثل “صرخة كافكا” الصوت النفسي المكبوت الذي يسعى إلى مقاومة هذا الوعي المأزوم بالزمن.
والحيثيات السيكولوجية التي يختبيء فيها زمننا المرعب هذا بمنظور كافكا ، تتجلى في :
أولاً: البعد النفسي للزمن المرعب:
من منظور علم النفس، الزمن يمكن أن يُختبر عبر ثلاثة أبعاد: الماضي و الحاضر و المستقبل. وفي التجربة الكافكوية:
أما الماضي يظهر كسلسلة من الذكريات المشوّشة والذنوب غير القابلة للمحو،
والحاضر، يتحول إلى سجن مكتظ بالانتظار والروتين البيروقراطي.
إلّا أنّ المستقبل يتراءى كهاوية غامضة، مفتوحة على التهديد أكثر من الأمل.
هذه البنية الزمنية تنتج ما يسميه علماء النفس الوجوديون بـ القلق الأنطولوجي (Ontological Anxiety) الذي يتجاوز الخوف العادي ليصبح إدراكاً حاداً لانهيار المعنى (May, 1977).
ثانياً: إيكولوجية الزمن كبيئة خانقة: يُظهر كافكا الزمن باعتباره إيكولوجية نفسية، أي نسقاً يحاصر الفرد كما تحاصرهُ البيئة الطبيعية.
فالبيروقراطية في المحاكمة، والانتظار في القلعة، والتحول الجسدي في المسخ، كلها أنماط لزمنٍ خارجي وداخلي يبتلع الإنسان.
فالزمن الخارجي، تفرضه السلطة و القانون والإجراءات المؤجلة بلا نهاية. أما الزمن الداخلي ، فيتجلى في الوعي المثقل بالشعور بالعجز والذنب. هنا يصبح الزمن عدواً لا يُرى، يخلق “إيكولوجيا مرعبة” تذكّر الفرد دوماً بمحدوديته وانطفاء حريته.
ثالثاً: صرخة كافكا كرمز نفسي: فالصرخة الكافكوية ليست انفجاراً عاطفياً مباشراً، بل هي صرخة وجودية صامتة تتوزع عبر نصوصه. هذه الصرخة تمثل آلية دفاعية نفسية لمواجهة ضغط الزمن المرعب.
فالسؤال الجوهري هو حول ماهية هذهِ الصرخة ؟
• إنها تشكل إحتجاباً نفسياً ضد المعنى المفقود.
• كما أنها تمثل محاولة لاستعادة الذات الأصيلة التي تحدث عنها كارل روجرز (Rogers, 1961) عبر مفاهيم التحليل النفسي.
كما يمكن اعتبار الصرخة رمزاً لـ اللاوعي الجمعي الذي يعبر عن مأزق الإنسان الحديث (Jung, 1964).
رابعاً: إسقاطات معاصرة:
في المجتمعات الحديثة، يعيش الأفراد ضمن إيقاع سريع ومتشابك لاسيما بعد الثورة الرقمية: (الزخم الهائل من المثيرات والتنبيهات و المواعيد المؤجلة و القنوات الإلكترونية للتواصل الاجتماعي).
هذه التجربة الزمنية تخلق نسخة جديدة من الزمن الكافكوي، حيث الانتظار واللايقين يهيمنان على الحياة النفسية.
ومن هنا، فإن صرخة كافكا تظل معاصرة، إذ تعبّر عن مأزق الإنسان أمام زمنٍ لا يرحم.
فمفهوم “إيكولوجية الزمن المرعب” يقدم إطاراً نفسياً لفهم معاناة الفرد في أدب كافكا، بوصفها صراعاً مع بنية زمنية خانقة تولّد القلق والاغتراب. أما “صرخة كافكا”، فهي تمثل المخرج النفسي، وإن كان هشّاً، لمواجهة هذا الزمن المرعب. وبالتالي، يمكن القول إن قراءة كافكا ليست مجرد تجربة أدبية، بل هي تحليل نفسي للوجود في زمن فُقِدَ معناه.
ولا يوجد في زمننا هذا عند الفرد العراقي غير هدهِ الصرخة الوجودية التي تدوي في أذنيه والتي تُشعرهُ بذنب لم يقترفه و بمشروعٍ لمسلسل مرعب سيأتي دوره آجلاً أم عاجلاً ، جرّاء ما خَبِرهُ من مظالم و مآسي و حروب و فساد و عبث العابثين .
إيكولوجية الزمن المرعب وصرخة كافكا

نشر في: 22 سبتمبر, 2025: 12:01 ص









