روس أندرسن*
ترجمة: لطفية الدليمي
القسم الثاني
في أوائل القرن العشرين حصد العلماء الألمان العديد من جوائز نوبل، وتوافد فيزيائيون من أوروبا الكبرى والولايات المتحدة إلى برلين وغوتنغن وميونخ ليتعرّفوا على الكون الكمي الجديد الغريب (اشارة إلى نظرية الكم، المترجمة) من ماكس بورن، وفيرنر هايزنبرغ، وألبرت آينشتاين. كان أدولف هتلر صاحب أعظم موهبة في إيذاء النفس علميًا. ولطالما كانت ألمانيا قوة علمية عظمى منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان الألمان روّادًا في جامعة الأبحاث الحديثة؛ إذ اشترطوا على الأساتذة ألا يقتصروا على نقل المعرفة بل أن يساهموا في تطويرها.
عندما استولى النازيون على السلطة عام ١٩٣٣ طهّر هتلر جامعات ألمانيا من الأساتذة ممّن عارضوا حكمه. قُتِلَ العديد من العلماء، وفرّ آخرون من البلاد، واستقرّ عددٌ لا بأس به منهم في أمريكا. هكذا وصل آينشتاين إلى برينستون. وبعد فصل الفيزيائي المرموق هانز بيته Hans Bethe من أستاذيته في توبنغن استقرّ في جامعة كورنل، ثمّ التحق بمعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) للعمل على تقنية الرادار التي ستكشف الغواصات الألمانية خلال معركة الأطلسي إبان الحرب العالمية الثانية. جادل بعض المؤرخين بأنّ الرادار كان أكثر أهميةً لإنتصار الحلفاء من مشروع مانهاتن (الذي أنتج القنابل الذرية، المترجمة). لكن بالطبع كان هذا المشروع (مشروع مانهاتن) أيضًا مزوّدًا بلاجئين علميين أوروبيين، بمن فيهم ليو زيلاردLeo Szilard ، الفيزيائي الألماني الذي فرّ من برلين في العام الذي تولّى فيه هتلر السلطة، وكذلك إدوارد تيلر Edward Teller الذي بنى أول قنبلة هيدروجينية، وجون فون نيومان John von Neumann مخترع بنية الحاسوب الحديث.
في وقتٍ قصيرٍ جدًا ارتفع مركز ثقل العلم وانتقل عبر المحيط الأطلسي. بعد الحرب (العالمية الثانية، المترجمة) كان العلماء الأمريكيون هم الأكثر سفرًا إلى ستوكهولم لتلقّي الأوسمة وجوائز نوبل، وكانوا هم من أسّسوا على عمل فون نيومان ليأخذوا زمام المبادرة في عصر المعلومات الذي لم تتخلَّ عنه الولايات المتحدة بعدُ. إلى جانب ذلك كانوا هم من طوّروا لقاحات شلل الأطفال والحصبة.
خلال فترة ما بعد الحرب سعى فانيفار بوش Vannevar Bush، رئيس مكتب البحث والتطوير العلمي الأمريكي في عهد روزفلت، إلى ترسيخ تفوّق أمريكا في مجال العلوم. لم يُعجِبْ بوش اضطرارُ الولايات المتحدة إلى الإسراع في توفير الكادر اللازم لمشاريع الرادار والقنبلة الذرية؛ فسعى بعد نهاية الحرب لتوفير كوادر علمية كافية في الجامعات الأمريكية تحسبًا لإشتداد الحرب الباردة. دافع بوش عن إنشاء المؤسسة الوطنية للعلوم NSF لتمويل البحوث الأساسية، ووعد بأن تُحسّن جهودُها الإقتصاد والدفاع الوطني الأمريكي.
شهد تمويل العلوم الأمريكية تقلبات على مدار العقود التي تلت ذلك؛ فقد ارتفع التمويل بعد إطلاق السوفييت للقمر الصناعي سبوتنك Sputnik وانخفض في نهاية الحرب الباردة. ولكن حتى تولّي ترامب السلطة للمرة الثانية مع بداية عام 2025 وبدء هجومه متعدد الجوانب على مؤسسات البحث الأمريكية، كان الدعم الواسع للعلوم أمرًا مفروغًا منه في ظل كلّ من الإدارات الديمقراطية والجمهورية. تُعدُّ سياسة ترامب التدخّلية غير المسبوقة في العلوم أمرًا جديدًا؛ فهو يشترك في سمات سياسات ستالين وهتلر المُضرّة بالعلم، كما يقول ديفيد ووتون David Waughton، مؤرّخ العلوم في جامعة يورك. ولكن في العالم الناطق باللغة الإنكليزية ليس لهذا الأمر سابقة، كما أخبرني ووتون: «هذا تدمير لا مثيل له، ويجري من داخل الولايات المتّحدة وليس من أعدائها الخارجيين».
تواصلتُ مع مكتب مايكل كراتسيوس، مستشار الرئيس للعلوم والتقنية، عدة مرات أثناء إعدادي لهذا التقرير. سألتُه إن كان لدى كراتسيوس، الذي يشغل المنصب الذي كان يشغله فانيفار بوش سابقًا، أيُّ رد على الإدّعاء القائل بأن هجوم إدارة ترامب على العلم غير مسبوق. سألتُه عن احتمال أن تُنفّر سياسات ترامب التدخّلية الباحثين الأمريكيين، وأن تردع الأجانب عن العمل في المختبرات الأمريكية. كنتُ آمل أن أعرف كيف يتعامل الرجل المسؤول عن الحفاظ على الهيمنة العلمية الأمريكية مع هذا الإنزلاق الواضح نحو الرتابة والأصولية الآيديولوجية. لم أتلقَّ ردًا.
لم يُفقَدْ كلُّ شيء بعدُ بالنسبة للعلوم الأمريكية؛ فقد أوضح المشرّعون بالفعل أنهم لا ينوون الموافقة على التخفيضات الكاملة التي طلبها ترامب في المعاهد الوطنية للصحة، والمؤسسة الوطنية للعلوم، ووكالة الفضاء (ناسا). ستظلُّ هذه الوكالات قادرة على الوصول إلى عشرات المليارات من الدولارات من الأموال الفيدرالية العام المقبل، وقد استعاد المُدّعون العامون في الولايات الديمقراطية الزرقاء بعض المنح الملغاة هذا العام في المحكمة. لا يزال أمام المؤسسات البحثية بعض النضال؛ إذ يقاضي بعضها الإدارة بتهمة تجاوز صلاحياتها التنفيذية. تأمل جامعات الولايات الجمهورية أن يستجمع حُكّام هذه الولايات شجاعتهم قريبًا للدفاع عنها. قال لي ستيفن شابين، مؤرخ العلوم في جامعة هارفرد: «من الناحية السياسية، إغلاق الأبحاث في هارفارد أمر، وإغلاق جامعة أركنساس أمر آخر تمامًا».
لا تُموّل الحكومة الأمريكية جميع البحوث العلمية الأمريكية. بل يدعم الأسخياء المتبرّعون والشركات الخاصة جزءًا منها، وسيواصلون دعمها. لا ينبغي أن تواجه الولايات المتحدة الإنهيار السريع الذي حدث في الإتحاد السوفييتي، حيث لم يكن هناك قطاعٌ خاص قوي لإستيعاب العلماء. ولكن حتى الشركات ذات ميزانيات البحث والتطوير الكبيرة لا تُموّل عادةً الأبحاث مفتوحة النهايات في المسائل العلمية الأساسية. باستثناء مختبرات بل Bell Laboratories في أوج ازدهارها، تُركّز هذه الشركات على المشاريع ذات الآمال التجارية الفورية. سيثور مساهموها غضبًا إذا استثمرت الشركات التقنية 10 مليارات دولار في تلسكوب فضائي أو مصادم جسيمات يستغرق بناؤه عقودًا ولا يُدرّ إيرادات تُذكر في الأمد القريب. سيُشوّه نظام العلوم الأمريكي المُخصخص والذي يخدم المشاريع قصيرة الأجل وعالية الربحية ، وسيتّجه من يرغبون في إجراء تجارب طويلة الأجل بمشاريع أكثر تكلفة إلى اماكن جذب خارج امريكا. قال شابين: «قد يخسر العِلْم الأمريكي جيلًا كاملًا. بدأ الشباب بالفعل يدركون أنّ العلم لم يَعُدْ يُقدّرُ كما كان في السابق».
إذا لم تَعُد الولايات المتحدة القوة العظمى التقنية - العلمية في العالم، فمن شبه المؤكد أنها ستعاني بسبب هذا التغيير. قد يفقد قطاع التقنية الأمريكي إبداعه؛ لكن العلم نفسه، بالمعنى العالمي، سيكون على ما يرام. الفضول البشري العميق الذي يحرّك جذوة البحث العلمي لا ينتمي إلى أي دولة قومية. قال شابين : «إنّ تنازل أمريكا عن العرش لن يؤدي إلّا إلى الإضرار بأمريكا. قد يتجه العلم أكثر نحو اللامركزية في نظام متعدد الأقطاب، مثل النظام الذي كان قائمًا خلال القرن التاسع عشر عندما تنافس البريطانيون والفرنسيون والألمان على التفوق التقني».
وربما، بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، ستصبح الصين القوة العلمية المهيمنة في العالم، كما كانت، على الأرجح، قبل ألف عام. لقد تعافى الصينيون من تبديد ماو تسي تونغ لخبراتهم خلال الثورة الثقافية. أعادوا بناء مؤسساتهم البحثية، وحافظت حكومة شي جين بينغ على تمويلها الجيد. وتُصنّف جامعات الصين الآن من بين الأفضل عالميًا، وينشر علماؤها بانتظام في مجلتي Science و Nature وغيرهما من المجلات المرموقة. بدأ باحثون من النخبة وُلِدوا في الصين ثم قضوا سنوات أو حتى عقودًا في مختبرات الولايات المتحدة بالعودة. ما لا تستطيع الصين القيام به جيدًا حتى الآن هو استقطاب علماء أجانب من النخبة، الذين بمقتضيات مهنتهم يميلون إلى تقدير حرية التعبير.
مهما يحدث لاحقًا فمن غير المرجح أن تضيع المعرفة الموجودة، في الأقل ليس بشكل جماعي؛ فالبشر أكثر قدرة على الحفاظ عليها الآن، حتى في ظل صعود الحضارات وسقوطها. كانت الأمور في الماضي أكثر تعقيدًا: ربما كان النموذج اليوناني للكون قد نُسي، وتأخرت الثورة الكوبرنيكية كثيرًا لو لم يحفظ الكتبة المسلمون النموذج اليوناني للكون في بيت الحكمة ببغداد. لكن الكتب والمجلات تُحفظ الآن في شبكة من المكتبات ومراكز البيانات تمتد عبر القارات السبع، وقد جعلتها الترجمة الآلية مفهومة لأي عالِم، في أي مكان. سنستمر في إكتشاف أسرار الطبيعة حتى لو لم يكن الأمريكيون أول من يعرفها ويبحث عنها.
في عام 1990 انتقل روالد ساغدييف إلى أمريكا. وجد مغادرة الإتحاد السوفييتي صعبة. كان شقيقاه يعيشان على مقربة من منزله في موسكو، وعندما ودّعهما خشي أن تكون هذه هي لحظة الوداع الأخيرة. فكّر ساغدييف في الذهاب إلى أوروبا؛ لكن الولايات المتحدة بدت واعدة بفرص أكبر واكثر. كان قد التقى بالعديد من الأمريكيين في زيارات دبلوماسية هناك، بمن فيهم زوجته المستقبلية. صادق آخرين أثناء مساعدته في إدارة الجزء السوفييتي من مهمات الرحلة الفضائية المشتركة أبولو-سويوز. عندما زار كارل ساغان Carl Sagan معهد أبحاث الفضاء السوفييتي في موسكو رافقه ساغدييف في جولة، وظلّ الإثنان صديقيْن مقرّبيْن بعد ذلك. ولتجنب إثارة شكوك السلطات السوفييتية سافر ساغدييف أولاً إلى المجر، ولما وصل بأمان إلى هناك حجز تذكرة سفر إلى الولايات المتحدة. قُبِل أستاذاً في جامعة ماريلاند واستقر في واشنطن العاصمة. استغرق الأمر سنوات ليتجاوز صدمة الثقافة. لا يزال ساغدييف يتذكّرُ إيقافه بسبب مخالفة مرورية، وإبرازه بطاقة هويته السوفييتية بالخطأ!!.
العِلْمُ الأمريكي هو ما أكسب ساغدييف في النهاية منزله الجديد. أذهلته طموحاتُ أجندة البحث الأمريكية، وأعجبه دعمُها المالي. كان يُقدّرُ حرية تنقل العلماء بين المؤسسات، وعدم اضطرارهم للزحف أمام قادة الأحزاب للحصول على التمويل. لكنْ عندما تحدثتُ مع ساغدييف آخر مرة، في الرابع من يوليو (تمّوز) 2025، كان يشعر بالحزن على وضع العِلْم الأمريكي. مرة أخرى يشاهد ساغدييف قوة علمية عظمى تتراجع. لقد قرأ عن مقترحات خفض التمويل في الصحف، وسمع عن مجموعة من الباحثين الذين يخططون لمغادرة البلاد. يبلغ ساغدييف من العمر 92 عامًا، وليس لديه أيُّ خطط للإنضمام إليهم. لكنْ كأمريكي يؤلمه رؤيتهم يرحلون.
* روس أندرسن Ross Andersen: كاتب في مجلة "ذا أتلانتيك The Atlantic" الأمريكية. شغل سابقًا منصب نائب رئيس تحرير المجلة. عمل مراسلًا صحفيًا في روسيا والصين والهند وباكستان وكوريا الجنوبية واليابان وغرينلاند، وهو أيضًا مؤلف كتاب "البحث الطويل The Long Search" الذي سيصدر عن دار نشر راندوم هاوس Random House. (المترجمة)
- الموضوع المترجم أعلاه منشور في مجلّة The Atlantic الأمريكية بتأريخ 31 تموز (يوليو) 2025.










