TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كيف حافظ النظام التعليمي العراقي على جذور التدهور تحت قشرة التغيير السياسي

كيف حافظ النظام التعليمي العراقي على جذور التدهور تحت قشرة التغيير السياسي

نشر في: 28 سبتمبر, 2025: 12:01 ص

محمد الربيعي

يروى ان اسوأ الكوارث هي تلك التي لا ترى، والتي تنساب بهدوء في شرايين النظام لتستمر في تسميمه لعقود، حتى عندما تتغير الوجوه والشعارات في القمة. هذا بالضبط ما حدث للتعليم العالي في العراق. يسود اعتقاد ان عام 2003 كان نقطة التحول الكارثية، البداية الحقيقية للتدهور. لكن هذا التشخيص السطحي يشبه ارجاع مرض السرطان في مراحله المتأخرة الى السعال الاول الذي ظهر الاسبوع الماضي، متجاهلا الخلايا الخبيثة التي كانت تنمو بصمت لسنوات طويلة. الحقيقة الاكثر قتامة هي ان النظام التعليمي العراقي لم يمت في عام 2003، بل ان جثته استمرت في السير على قدمين، تحركها نفس الروح ذاتها، نفس الفلسفة، ونفس الادوات الفاسدة، لكن تحت اسماء وعناوين مختلفة. لقد كان سقوط النظام السياسي مجرد كاشف شعري ماساوي عن عمق الانهيار الذي كان قد اكتمت بنيانه منذ عقود.
الاستمرارية من تلقين الايديولوجيا الى تلقين الطائفية
في عهد النظام السابق، تم تحويل الجامعات من حاضنات للفكر النقدي ومنارات لانتاج المعرفة الى مصانع ضخمة لتصنيع “الموالين”. لم يكن الهدف الرئيسي هو تخريج عقول مفكرة، قادرة على المساءلة والتحليل، بل كان الهدف انتاج موظفين مطيعين، ينفذون ولا يعترضون، يحفظون ولا يبتكرون. كانت المناهج اداة لغسل العقول، والنقاش الاكاديمي جريمة، والولاء للحزب هو المعيار الاول للنجاح.
المفارقة الماساوية انه بعد عام 2003، لم يتم اقتلاع هذه الفلسفة من جذورها، بل تمت اعادة تدويرها. لقد سقطت شعارات “الثورة” و”القائد”، لتحل محلها شعارات طائفية وسياسية جديدة. بقي التلقين هو المنهجية السائدة، وان تغيرت المضامين. ظل الهدف الحقيقي للطالب هو الحصول على “شهادة” تفتح له باب الوظيفة الحكومية، وليس بناء معرفة حقيقية او مهارات تفكير نقدي. لم يتم استبدال نموذج “التعليم من اجل الطاعة” بنموذج “التعليم من اجل الحرية والابتكار”. لقد تم تغيير السجانين، لكن السجن بقي على حاله.
ارث المناهج المتقادمة
عانى النظام التعليمي في عهد النظام السابق من عزلة قاتلة، عززها الحصار الاقتصادي، مما قطعه عن اي تطور عالمي في العلوم والاداب. اصبحت المراجع العلمية قديمة ومتحجرة، وتم منع اي فكرة تخالف الخط الرسمي تحت ذرائع امنية.
بعد عام 2003، ورثت السلطات الجديدة هذا الارث الثقيل من المناهج المتخلفة. ورغم المحاولات الظاهرية للتحديث، بقيت عملية التطوير بطيئة، بيروقراطية، وغير جذرية. بل والاسوأ، انها خضعت في كثير من الاحيان لاجندات سياسية ودينية ضيقة، فاضيف الى التقادم العلمي تحيز ايديولوجي جديد. فعلى سبيل المثال لا تزال العديد من الكليات تتعامل مع النصوص الادبية (الشعر والنثر قديمه وحديثه) بمناهج بنيوية شكلية بحتة او تاريخية تقليدية، متجاهلة تماما المناهج النقدية الحديثة التي انتقلت بها دراسة الادب من مجرد تذوق جمالي الى فهم عميق للخطاب والسلطة والثقافة والمجتمع. ولا تزال المناهج في كثير من كليات القانون تركز على تفسيرات قديمة وقرارات محاكم عراقية من حقبة سابقة، مع عزلة شبه تامة عن التطورات الهائلة في الفقه القانوني الدولي والقضاء المقارن، والنتيجة يتخرج محام او قاض غير قادر على فهم التعقيدات القانونية للعالم الحديث، مما يفقد النظام القضائي فعاليته ومصداقيته. وربما يكون الاعلام هو المجال الاكثر تغيرا على الاطلاق، ومع ذلك لا تزال العديد من كليات الاعلام في العراق تدرس مناهج تركز على الاعلام التقليدي (الصحافة المطبوعة، الاذاعة، التلفزيون) ككيان منفصل، مع تعامل سطحي جدا مع ثورة الاعلام الرقمي الجديد. وفي كليات التربية تسود فلسفة تربوية متخلفة عن الركب في حين ان هذه الكليات هي مصنع المعلمين، وبالتالي فان جمود مناهجها هو اكبر كارثة، لانها تنتج معلمين يحملون نفس الفلسفة المتكلسة. وكمثال لا تزال المناهج تركز على نظريات التعلم السلوكية (مثل بافلوف وسكينر) التي تعامل المتعلم كوعاء فارغ يجب ملؤه، مع اهمال شبه تام للنظريات البنائية والاجتماعية الحديثة التي تركز على بناء المعرفة لدى الطالب وتنمية مهارات التفكير النقدي والابداعي وحل المشكلات، والنتيجة استمرار دورة التلقين والتخلف، حيث يتخرج المعلم ليعيد انتاج نفس النموذج التربوي الفاشل الذي تلقاه هو نفسه.
اذا كان جمود المناهج هو احد اعراض المرض منذ عهد البعث، فان الفصام بين الجانب النظري والعملي هو احد اخطر مضاعفاته. لقد تحولت العديد من الكليات العلمية (الهندسة، الحاسبات، العلوم التطبيقية) وحتى الطبية الى معاهد لتدريس «النظرية المجردة»، حيث يختزل فهم العالم في معادلات وحفظ معلومات منفصلة عن واقعها التطبيقي.
في كليات الهندسة، قد يتخرج الطالب وهو يحفظ قوانين الديناميكا الحرارية او مقاومة المواد دون ان يلمس قطعة معدنية حقيقية في ورشة الجامعة، او يشارك في تصميم نموذج (ماكيت) لمشروع هندسي. المختبرات ان وجدت، غالبا ما تكون ادواتها قديمة ومتهالكة، وتقتصر التجارب على “وصفات” جاهزة (Cookbook Experiments) يتبعها الطالب خطوة بخطوة دون فضول للاستكشاف او الابتكار. الغاية هي اجتياز “تقرير التجربة” وليس فهم الظاهرة.
في كليات الهندسة، لا تزال تدرس نظريات وتقنيات اصبحت من تاريخ العلم، لان عملية التحديث ومواكبة الثورة التقنية تتطلب ارادة سياسة ونزاهة اكاديمية غائبة. وفي التاريخ والعلوم السياسية لازالت تسود اساليب سردية احادية وقراءة انتقائية للتاريخ وهذا هو اخطر انواع الجمود، حيث يصبح الهدف من المنهج ليس الفهم والتحليل، بل التلقين والتبرير.
وفي كليات علوم الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات، تصل الماساة ذروتها في عصر الثورة الرقمية. قد يمضي الطالب سنين وهو يدرس نظريات البرمجة وخوارزمياتها دون ان يطور تطبيقا او موقعا ويبا حقيقيا قابلا للعمل (Deployment). يتم تجاهل ادوات وممارسات العمل الحديثة الضرورية مثل انظمة التحكم بالاصدارات (Git) ، ومنصات العمل المشترك، واساليب البرمجة (Agile)، وادارة قواعد البيانات المعقدة. النتيجة هي خريج يجيد حل مسائل نظرية في الامتحان، لكنه عاجز عن الاندماج في فريق تطوير برمجي في شركة تكنولوجية. والادهى ان هذه الكليات ومثيلاتها بدأت بتبديل اسمائها الى كليات الذكاء الاصطناعي بدون توفير المرافق والادوات والاجهزة الضرورية لهذا التحول.
اما في الكليات الطبية، فالمشكلة اكثر حساسية لانها تتعلق بصحة الانسان مباشرة. رغم ان الجانب العملي (الاكلينيكي) اكثر حضورا، الا انه يعاني من نقص فادح. قد يتخرج طالب الطب وهو لم يجر سوى عدد محدود جدا من العمليات او الفحوصات تحت الاشراف، بسبب الاكتظاظ الهائل للطلبة مقابل نقص في المستشفيات التعليمية والكوادر التدريسية المؤهلة للتدريب العملي المكثف. هذا يؤدي إلى خريج يمتلك معلومات نظرية هائلة، لكن ثقته وقدراته العملية لا تتناسب مع المسؤولية الملقاة على عاتقه. فبدلا من ان يكون رافدا لكفاءته، كان هذا الأسلوب عاملا مضعفاً لمهاراته التشخيصية والاكلينيكية، وهو ما زاد من اعباء المنظومة الصحية.
لقد تحول الحصار الخارجي المفروض على النظام السابق الى حصار داخي مفروض من قبل الفساد والبيروقراطية والصراعات السياسية.
فساد الية التعيين
كانت الوظائف الاكاديمية القيادية (كعمادات الكليات ورئاسات الجامعات) في السابق تمنح كمناصب سياسية، يعين فيها الاكثر ولاء للحزب، وليس الاكثر كفاءة ونزاهة. ويتم التعين عن طريق مجلس قيادة الثورة.
هذه الالية لم تتغير بعد عام 2003، بل ساءت وتعمقت. لم يعد معيار التعيين هو الولاء للحزب، بل اصبح الولاء للكتلة السياسية او الميليشيا او الطائفة واصبحت من مهام الوزير. لم يعد رئيس الجامعة او العميد عالما يفترض ان يقود مؤسسة علمية، بل اصبح منصبه غنيمة سياسية توزع بالمحاصصة او تقتصر على الموالين للوزير وحزبه. هذا الامر افقد النظام التعليمي مصداقيته من داخله، واصبح حاجزا امام اي اصلاح حقيقي، حيث ان القائمين على النظام هم انفسهم نتاجه الفاسد وحراسه الاوفياء.
العزلة الاكاديمية.. من الحصار القسري الى العزلة الطوعية
في الماضي، كان الاكاديمي العراقي معزولا عن العالم بقرار قسري، مما حرمه من المشاركة في الحياة العلمية العالمية.
بعد عام 2003، انفتحت الحدود رسميا، لكن “الحصار الذاتي” استمر باشكال جديدة. فبرامج الابتعاث والتبادل العلمي لم تزداد بدرجة ملحوظة واصبحت رهينة المحسوبيات والفساد والولاءات السياسية. غالبا ما تمنح فرص الايفاد النادرة والمشاركة في المؤتمرات الدولية لمن ينتمي الى الكتلة الصحيحة، وليس لمن يمتلك الكفاءة العلمية الحقيقية ولم تعد الدولة تمول المشاركات في المؤتمرات الدولية واقفرت الموارد المالية للبحث العلمي. بالاضافة الى ذلك، فان بيئة العنف وعدم الاستقرار والطائفية والفساد حولت العراق الى بيئة طاردة لاي عالم دولي قد يفكر في الزيارة او التعاون، كما طردت افضل العقول العراقية الى الخارج في نزيف مستمر للكفاءات.
الحلقة المفرغة
الخلاصة المؤلمة هي ان التعليم العالي في العراق وقع في شرك “استمرارية التدهور”. لقد نجح النظام القديم في بناء نموذج تربوي فاسد وقمعي كان غايته انتاج الرعية، لا المواطن. النموذج الذي لم يهزم بعد، بل تمت اعادة تهيئته ليتكيف مع الواقع السياسي الجديد، حافظا على جوهره وهو الخوف من السلطة، ثقافة التلقين، تقديس الشهادة على حساب المعرفة، وفساد الاليات.
طالما بقيت هذه الفلسفة وادواتها سائدة، فان اي تغيير سياسي سطحي سيبقى غير قادر على انقاذ التعليم من دورانه في هذه الحلقة المفرغة. الاصلاح الحقيقي يتطلب جراحة عميقة وجذرية تبدا بتغيير فلسفة التعليم نفسها: من تعليم الطاعة الى تعليم الحرية، ومن ثقافة التلقين الى ثقافة التساؤل، ومن معيار الولاء الى معيار الكفاءة، ومن العزلة الى الانفتاح على العالم. بدون ذلك، سيستمر الانهيار، متخذا اشكالا جديدة، لكنه يحمل في قلبه نفس المرض القديم.
* بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. د. مهران موشيخ

    منذ 2 شهور

    احسنت دكتورنا العزيز، هذه ليست مجرد مقالة وانمااعتبره ملخص لبحث اكاديمي بمستوى رسالة ماجستير. لقد كشفت سلبيات الماضي،واثبت بالتفصيل بان ما بعد2003 لم يجري اي تحسن وانما استمر فشل فلسفة ومنهاج واسلوب العملية التربوية.هذه الحالة تشير الى استمرار الانتكاسة

  2. amjedalajeeli20@gmail.com

    منذ 2 شهور

    الوصفة دقيق للمشكلة العلمية والانهيار واضح بكل حيثيات التعليم والاسوء النظام الاداري ((التطور)) أن وجد

  3. د. حسام الدين اسماعيل رشيد

    منذ 2 شهور

    الظاهرة الجديدة التي رافقت استمرار تدهور التعليم العالي والبحث العلمي بعد الإحتلال عام 2003 ، هو دخول الجامعات الاهلية التي فاق عددها عدد الجامعات الحكومية على نظام التعليم العالي في العراق ، اذ مثلت ادارته احد ابشع صور الفساد العلمي والاداري والمالي .

  4. د.عبد الجليل البدري

    منذ 2 شهور

    شكرًا جزيلاً على جهودكم القيّمة، عملكم يبعث على الفخر برفسور محمد.أنتم قدوة في الإبداع والإخلاص .نعم إنجازكم يعكس التزامًا عميقًا ويستحق كل التقديرودافعًا للاستمرار نحو إنجازات أكبر بإذن الله.

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram