TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > محاكمة الطيش

محاكمة الطيش

نشر في: 28 سبتمبر, 2025: 12:02 ص

ياسين طه حافظ

لا يسمح العصر بتشدد في الاحكام ولا يرتضي متحضِّرٌ بالاحكام الحادة القاطعة. ذلك لاننا اذا تحضرنا تنوعت ثقافاتنا واتسعت مديات التعبير كما يتزايد حضور الافكار. لذا، لا ينزعج احد اذا ترددنا في تقبل مفهوم الثورة كما فهمناه من احداث التاريخ. لا نريد محاكاته او تبني عموميته الواسعة. لم نعد ، كما لسنين ، نتمناها ونشيد بها مقرونةً بسعة الحرية وسعة المكاسب.
نحن اليوم نشكك في المفهوم ونحاول قدر الممكن ان نفصل بين الرغبات وبين الجدول الاجرائي لمقررات ، ثم لنتائج الثورة. نشكك اليوم في المفهوم ونراه احياناً صار قديماً ويقع ضمن حركات وكسْر الانظمة والخروج الجمعي على القوانين. ما عدنا نعتمد قلب الواقع والاستئثار بالتحولات الاجتماعية بحسب منطوق ورؤية يختلفان عن السائد ويرانه باطلاً ومجرماً بحق البشر المحكومين به.
قوى التحول والتغيير اليوم قوى مختلفة ومن كل الطبقات، لأن صلتها بالفكر والثقافة والبيانات والمختبرات والعلاقات الدولية. فإذا بقي مفهوم الثورة كما هو ذاك الذي ورثناه، حين لم يكن لنا أفق آخر، يتعذر عندئذ حصول ثورة. ستتلافى حدوثها، او تعوضها فئات ساخطة او منتفعة بانقلابات، تعويضاً بائساً ووسيطاً عن قدوم افكار ومخططات يراد لها ان تحل محل القديمة. يمكننا مبدئياً الاتفاق على ان الديمقراطية اليوم ترسم حاجزاً عن الثورات، وقد كانت الثورات من اجل هذه الديمقراطية (وضمن موضوع اوسع هو الحرية)..
ونحن ورثنا مفهوم الثورة مصحوباً بالعنف ويصحب العنف اضطهاد آخرين واضطهاد الغير يعني استلاب افكار اخرى مخالفة في الساحة و مغادرة او رصد اصحابها. هذه ايضاً اسباب ثورة لم تحدث بعد. كيف التفكير بعقل جمعي لا يعترف لغيره بتجربة الفكر وحرية التعبير والمشاركة العادلة في مكاسب التقدم الاجتماعي، وهو الشريك الاكثر حصة في الارزاء والتدهور الاقتصادي؟ التجارب الماضية للشعوب اعطت هذا الدرس الذي لا سبيل لنكرانه.
ان اختلاف الثقافات سبب رئيس وراء ذلك. واي تلاؤم بين الثقافات والافهام ومستويات الوعي المدني، يحتاج الى جهد واسع، تربوي وفكري، وهو الإشكال الصعب الذي لم تجد له الشعوب حلاً او لا تريد له الفئات المتسلقة حلاً. ان مفهوم «ثورة» يحيلنا مباشرة الى «ضد الثورة» ما دمنا نريد التغيير للاحسن والتحرر باتجاه العدالة الاجتماعية غير محددين بفئة. وحين نقول بفئة نقول ، اذا توسعنا، بطبقة.هنا يصعب الرضا العام بالثورة اذا لم يمس المفهومَ تغييرٌ نوعي ينقذه من ان يكون في بعض جوانبه نوعاً من العدوان. ثم لماذا نختار صفات مثل التحررية، العادلة، ولم نضع حقوق الاخرين طبقات او افراداً ضمن محتوى هذه الصفات؟ اسقاط الجانب العدواني لزوم مدني وحضاري . معروف هنا ان ليس طبقة الحكم او المؤسسة الحاكمة فقط تكون هدفاً ولكن هناك كثيرين معها مرتبطون بمصالح وتسلسلات ادارية وعلاقات اجتماعية. واولاء(المدانين ثورياً) يتمنون ايضاً التحول للاحسن. لكن ما سيحصل هو انهم سيكونون ضمن الاستهداف الواسع وحماسات الضد. ان الثورات غالباً ، ضمنها او تصحبها، منافسات مصالح او منافسات طبقية. ورغبات التوسع والتأطير هي اقتصادية الاساس، لكن تنسرب فيها طموحات فردية او «كتَلية»، فتكون الاستياءات ايضاً ضمن هذا النسيج ومنه .
في افق ملتبس صعب كهذا يجد الادب موقعَهُ وتجد الفنون موقعَها. ويكون للثقافة طموح التعبير عن نفسها وعن الحياة حولها وبما صارت تمتلك من آفاق جديدة ومضامين او من تحولات و مستجدات.
ومادمنا وصلنا الى حضور الثقافة، وجب اذاً ان نقول «الثقافات» بصيغة الجمع لاختلاف مستويات ثقافات الافراد والتجمعات وتنوعها. وهذا التنوع او التحول ، هو من متطلبات ومن نتائج التحول الاجتماعي اصلاً.. واجواء الثورة اكثر تمثيلاً له من سواها.
وارى من غير المؤكد او غير الصواب النهائي ، القول بـ الادب الثوري او الثقافة الثورية، لا يوجد هكذا تصنيف . هنالك الادب والثقافة. والتحولات هي تحولات ثقافية عامة . الاحداث لها اسبابها ، وهي اسباب غير ادبية.
فنون راقية ظهرت في ازمنة تخلفٍ فكري، ونتاجات ادبية عالية المستوى في ازمنة انحطاط وازمنة اقطاع. الثقافة تملك امتيازها الوجودي في المدى التاريخي لانها متصلة اتصالاً بنيوياً بالحيوية الانسانية، غير المصطنعة ، السليمة من التدخل او الهيمنة التسلطية. ثورة كبيرة حصلت لم ترافقها وثائق او نتاجات ادبية خارقة تتناسب وطاقة الثورة وسعتها. للادب مساراته الخاصة وللثقافة الفكرية والفنية مساراتها، وتبادل التأثير طبيعي لا بد منه. ولكن اي مؤثر لا يكون جذرياً ولا حاسماً وحده. هو مؤثر وقد يكون كبيراً التأثير ليس غير.. اما ان نتبنى اجواء واحداثا واية قضايا من قضايا الشعب والوطن، فيمكن ان تكون في اي وقت وبأية طريقة. هنالك مسألة جديرة بالاثارة هي ان الثورات وبعد ايام من تفجرها، تكون بقيادة الدولة، وعقل الدولة ليس هو العقل الثقافي.
يكفينا القول ان الاطاحة بالنظام السياسي ليس الاطاحة بالثقافة. واذا كان هنالك تغيير فهو تغيير نسبي يظل قلقاً ولا يطيح بتاريخ الثقافة او برسوخها. ثمة ظواهر مرحلية تحاول ان تترسخ او تحاول ان تتأهل غالبها يختفي من بعد ، ما أُغفِلَ يجد فرصته ويعود!
مسألة اخرى، الاصلاح الاجتماعي الذي تتبناه قوى تنتمي الى الواقع اليومي للناس (هذا اذا لم يشتبك به او يهيمن عليه التسلط السياسي المسلح والغوغائي)، لا يمس الثقافة بضرّ، بل يغذيها بمستجدات. ثورات متميزة مثل (اوكتوبر) والكوبية، هاتان وضعتا الثقافة ضمن المثار عليها والمطلوب تغييرها. كانت الثقافة هدفاً من اهداف الثورة . فشمل التدخل الماورائيات والعقائد والفلسفات والافكار (التي وصفت بالضارة واحياناً المعادية). لم يبق هذا الموقف. طالَ، لكن عادت الثقافة من بعد الى مجاريها وحضورها بل والاهتمام المرحِّب بها!
ولكن، هنا أسفٌ آخر، كانت هذه ايضا على حساب خسارات اخرى لعموم الناس. فارباك الاسس الثقافية (القديمة) السائدة وتوجهاتها لا يصح ان يأتي باوامر خارج الثقافة، اوامر سياسية او ادارية وحتى اصلاحية عامة. الطبيعي ان تحولات الثقافة تكون ناتج الحيوية الثقافية وتناميها.
نعم حسن النية وسلامة الرأي فكريا قد يسعيان الى تحولات في اساليب الثقافة ومضامينها لما يناسب الهدف. والهدف هنا هو تغيير او تطوير الواقع الاجتماعي.
وهذا فعلا ما اوجد ثقافة ثانية اقرب للناس والواقع من تلك «الرفيعة» والتي كانت ثقافة نخبة اصلا، يجد العوام فيها بعض ما يُمتع وبعض ما يعبر عن «بعضٍ» مختار من واقعهم.
لكن الثقافة المستجدة قد تتعرض الى توقف اذا ما انعطف المجتمع سياسيا وتغيرت النظرية او النظريات. وهنا تعود الثقافة الاولى المزاحة او امتدادها، تعود متطورة وحديثة متاثرة ومسايرة لثقافة العالم والعصر.
هنا نواجه خسارتين، خسارة شعبية لِما صاروا يألفونه ويحظى بالرضا، فانزاح. وخسارة اخرى اننا لا نرى الثقافة العائدة، او المتصفة بالجديد والحداثة، نصيرةً لقضايا الشعب، بل رُسِم لها ان تكون بعيدةً معزولة، او صُنِعت منها عزلة مدنية لتكون، لا نقول ضد، ولكن لتكون لفئاتٍ اكثر تقدما وحداثةً من بيئتها.
التوافق بين الاثنين في المرحلةِ نفسها، صعبٌ. ولكنه ليس ازلياً.هو يظل تفوقا، ويظلُ نوعٌ من العزلة تراه حركةُ الحياة العامة طبيعيا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram