لطفية الدليمي
قد تكون «المكاشفة التاريخية» غريبة بعض الشيء وذات وقع ثقيل على النفس؛ ربما لأنّها ليست من عناصر الثقافة السائدة لدينا. يمكن أن نورد أخدوعة (إعادة كتابة التاريخ) كواحدة من قريبات المكاشفة التاريخية على المستوى المفاهيمي؛ لكنّ البعد بين العبارتين شاسع: يمكن إعادة كتابة التاريخ من غير إعادة فهم تفاصيله. ما لَهُمْ والمكاشفة التاريخية هؤلاء الذين سعوا لإعادة كتابة التاريخ من قبلُ، أو يسعون لإعادة كتابته (أو إعادة قراءته بالأصح) اليوم؟ الأمر في النهاية رهنٌ بقصدية مسعى المكاشفة أو إعادة الكتابة/القراءة. ابتغاء وجه المعرفة الخالصة آخر ما يفكّر فيه المكاشفون أو راغبو إعادة الكتابة أو القراءة للتاريخ.
تاريخنا العربي والإسلامي حافلٌ بضروب الأفعال المخجلة والمعيبة التي يجب كشفُ اللثام عنها بشجاعة. العرب في هذا ليسوا قوماً شاذين. كلّ الأمم لها تواريخ مظلمة مثلما لها بقع مضيئة في تلك الظلمة. كان القتل والتعدّي على حقوق الإنسان شائعَيْن قبل قرون؛ إذ كانت القوة الباطشة هي الحاكمة في تلك الحقب. من المفيد أنْ نتذكّر أنّ مدوّنة حقوق الإنسان أعلِنت عام 1948 عقب ثلاث سنوات فقط من نهاية حرب عالمية دموية أزهقت أرواح أكثر من ستين مليوناً من البشر. مع ذلك فإنّ مدوّنة حقوق الإنسان لا يعمل بها الجميع كَنَصٍ مقدّس بل يشوب السلوك العالمي الكثيرُ من النقصان والنفاق والكيل بأكثر من مكياليْن. أريد القول أنّ العرب ليسوا من غير نظير في سوءات إكتنفت تاريخهم، وليسوا وحدهم من يحتاجون مكاشفة تاريخية صارمة ودقيقة لذلك التاريخ.
هنا يأتي التساؤل الدقيق: كيف يجب أن تحصل هذه المكاشفة التاريخية لدينا؟ كم حدودها؟ ولأيّ أغراض؟ ومن هو المكلّفُ بهذه المكاشفة؟ لو كانت المكاشفة لغرض الفهم والبناء على هذا الفهم لصناعة مستقبل أفضل فذلك أمر طيب ومحمود ومطلوب قبل كل شيء؛ لكنْ لو كانت المكاشفة انتقائية، ذات أغراض محسوبة عند صانعي سياسة المكاشفة، وتسعى لتأكيد سرديات محدّدة في مقابل تسفيه سرديات مقابلة فذلك أقرب لتقديم خنجر مسموم لأعدائنا لكي يطعنوا به عراقنا (أتحدّث عن العراق هنا على وجه التحديد).
***
كانت هذه المقدمة التمهيدية ضرورة لازمة لملاحظاتي على برنامج تلفازي عنوانه (كتاب مسموع) تبثّه قناة عراقية. شاهدتُ حلقات متسلسلة فيه، وكلُّ لقاء مع ضيف في موضوعة محدّدة تستغرقه حلقاتٌ عديدة قد تصل عشراً أو أكثر أحياناً. منذ البدء يعرف المرء الوتر الذي يعزف عليه البرنامج. هو يريد مكاشفة تاريخية؛ لكن كيف ولماذا؟ أتمنّى أن يكون معدّو البرنامج قد وضعوا العراق فوق كلّ الإعتبارات الأخرى، وما كلّ ما يتمنّى المرء يبلغه. كانت حلقات البرنامج وضيوفه وموضوعاته متباينة؛ فمنها ما كان الضيف فيها عادياً تقليدي المعرفة، ومنها ما كان خطابه منقاداً لسردية آيديولوجية واضحة حتى لو اجتهد المبشّر بها في إخفائها تحت ستار المثاقفة الرفيعة. أظنُّ أنّ المرء بعد سنوات معقولة من خبرة وتمرّس بلغة الخطاب لن تعجزه معرفةُ المخبوء الذي لا يُصرّحُ به في ما يقال ببرنامج تلفازي أو مقالة صحفية.
أفْضَلُ حلقات برنامج (كتاب مسموع) كانت بعنوان (الدراما والحياة وأشياء أخرى) مع السيناريست حامد المالكي، الذي باتت أقصى أحلامه أن يمكث في معتزل جبلي يضمّه كوخ في قرية سويسرية بعيدة تقع قريباً من سكّة حديد ليون-جنيف، وأن يكون لوحدُهُ في (القرنة) حيث يتعانق الفرات ودجلة. بدا حامد المالكي -كعادته-هادئاً متمكّناً من مادّته، وحتى عندما أراد تفكيك السرديات التاريخية المتوارثة فقد أراد التفكيك المعرفي الخالص جرياً على عادته في لقاءات أخرى له. لم يغفل المالكي عن الإشارة إلى تواريخ معيبة في بلدان قريبة من العراق وكأنّه أراد تذكير المشاهد أنّنا لسنا وحدنا من له تواريخ معيبة. لا ميزة لهؤلاء علينا في الطهرانية التاريخية؛ إذ لا وجود لهذه الطهرانية في عالم عنوانُهُ الأكبر هو الصراع بين الأفراد والأمم وبوسائل مختلفة، ناعمة وخشنة. أليست الدراما منذ مؤسسها الأوّل (أرسطو) وحتى اليوم تعبيراً جمالياً عن تمثّلات صراعية في الحياة؟
على مدى ست حلقات شاهدتها متلاحقة من غير فسحة زمنية بينها جال المالكي على عالم الدراما العالمية والمحلية فأمتعنا وأضاف لنا ألواناً من المعرفة التي هي خارج نطاق الدراما التقنية. أعتقد أنّ هذه الجولة المعرفية تستحقُّ مشاهدة دقيقة وتفكّراً في عناصرها وأطروحاتها التي قد يراها بعضنا خارجة عن سياق المألوف، ولا بأس في ذلك. الأمر الجوهري هو تحريك البركة الراكدة. لم تَخْلُ حلقة من أطروحة كبرى تقترن مع أفكار صغيرة مبثوثة هنا وهناك.
من هذه الأطروحات أنّ الدراما هي متعة تتوسّلُ بجمال الصنعة قبل كل شيء. أراني متفقة مع هذا الرأي. الفنّ كله متعة قبل كلّ الإعتبارات الأخرى. الإشكالية ليست في أسبقية المتعة على سواها بل في طبيعة المتعة وكيف تكون؟ عندما تحبُّ فكرة ما أو موضوعاً ما فستكون كل مقاربة درامية تتوسّل بهما مصدر متعة للمرء المتناغم مع تلك المقاربة. هل تحب الفلسفة؟ أو قصص الخيال العلمي؟ أو التاريخ؟ سترى نفسك منجذباً إلى الدراما التي تعتمد الفلسفة أو الخيال العلمي أو الدراما التاريخية. ما تراه أنت مصدر متعة قد لا يراه آخرون كذلك، وهذا يستلزم القول -بالضرورة المنطقية- أنْ لا وجود لدراما تمتّعُ الجميع بالقدر ذاته والكيفية ذاتها.
الأطروحة الثانية هي أنّ الدراما (الفنّ) لا تؤثّر في المشاهد. أراني أتفق في جزء وأختلف في جزء. أفاض المالكي في شرح وجهة نظره معتمداً على أمثلة عديدة أهمّها فلم الإغراء الأخير للمسيح The Last Temptation of Christ، ويتساءل بعد شرحه المستفيض: هل غيّر هذا الفلم من إعتقاد المسيحيين؟ نعم لم يغيّر؛ لكنّي أظنُّ أنّ تأثير الفن لا يكون في الثيمات الكبيرة -وبخاصة الثيمات الإعتقادية Belief-Based themes- بل قد يؤثّر في تفاصيل سلوكية صغيرة في الإنسان: أن ننتبه لمن حولنا، وأن نتفحّص تأثير الزمن في سلوكنا، وأن نفتح أفواهنا دفاعاً عن الضعفاء وغير القادرين سياسياً أو اقتصادياً، وأن ننتبه للبيئة التي نعتاش على التوازن الحيوي الدقيق بين مكوّناتها. هذه أمثلة فحسب.
الأطروحة الثالثة هي وجود ثلاث عصيّ (سلطات) مشرعة فوق رقاب الناس: عصا المعلّم، وعصا العريف (في العسكرية)، وعصا رئيس العشيرة. ربّما تضاءلت سطوة عصا المعلم وعصا العريف اليوم لإعتبارات مفهومة؛ لكنّ العصا الثالثة لم تزل قائمة؛ بل نراها قد تغوّلت أكثر من ذي قبلُ. أحسَبُ نفسي متفقة مع رأي المالكي، وقد سبق لي الكتابة في مقالة عن حسّ المفاخرة الذي يتحدّث به البعض وهو يصرّحُ كيف أنّ (راشدي) معلّمه هو الذي جعل منه رجلاً. الحقيقة أنّ هذا (الراشدي) انتقص من كرامته وثلم حسّه الطبيعي بالكينونة الآدمية. أحياناً يكون العقاب المدرسي أقرب لحفلة سادية يوظّفها المعلّم لتفريغ بعض مخزون الكراهية الذي يغلي في قلبه. سرديةُ (كاد المعلّم أن يكون رسولا) المتداولة تستوجب إعادة نظر جذرية، والراشدي لا يصنع انساناً واثقاً بنفسه ومؤمناً بإمكانية النهوض بقدراته. لا عجب بعدئذ أن كانت معظم مدارسنا مقابر جماعية للمواهب الثمينة.
الأطروحة الرابعة هي أنّ البطالة رأس كلّ خراب مجتمعي، والعاطل يستحقُّ ما يكفيه لإحتياجات العيش في حدّها الأدنى. جاءت مقاربة المالكي متوافقة مع المقاربة الأوربية، وفي هذا تكمن طوباويتها وإن كانت الطوباوية مقبولة على المستوى الحُلْمي في أقلّ تقدير. كيف نتوقّع أن تتدبّر الحكومة ذات الميزانية المليارية الضخمة، والموبوءة بفساد معلن يزكم الأنوف، أمر العاطلين بمنحة تكفيهم مؤونة العيش وهي ترتضي منحة يابانية ببضعة آلاف من الدولارات لإصلاح جهاز طبي في مستشفى حكومي؟
***
قدّم لنا برنامج (كتاب مسموع) مع حامد المالكي معرفة رصينة تخالطها متعة حقيقية. عندما تتخذ العراق عنواناً تتصاغر دونه كلّ العناوين الأخرى فقلْ ما تشاء، وسنصغي إليك بإمعان؛ أمّا لو رأيت في العراق جاهلية صنعها البريطانيون ويجب محاربتها لإعلاء عناوين أخرى سواها فعند ذاك تكون المراجعة والتدقيق والتشكيك في نزاهة المسعى واجباً وطنياً.
لو ذهب العراق فكلُّنا ذاهبون إلى العدم. لو ذهب العراق لذهبنا جميعاً وطوَتْنا غياهبُ النسيان بعد أن يهتكنا الجوع والعطش القادم وتنهشنا الحاجة المُذِلّة. وهل نحن سوى كائنات طفيلية تعتاش على دم العراق؟










