TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > سقوط الحضارة والعودة إلى البداوة

سقوط الحضارة والعودة إلى البداوة

نشر في: 29 سبتمبر, 2025: 12:03 ص

محمد حميد رشيد

1
الإنتقال من البداوة إلى المدنية أصبح ضرورة حضرية قسرية لا فكاك لأغلب المجتمعات البدوية وهو إنتقال جبري بفعل ما توفره المدنية من وسائل معيشية وتقنيات حضارية تسهل العيش وتبسط الإتصال ثم تبداْ بعض المجتمعات المدنية بالإقتراب من المجتمعات المتحضرة ومن ثم إلى الحضارة عبر مراحل متسلسلة ولكن ليس كل المجتمعات المدنية (المنتفعة من الحضارة) يمكنها أن تنتقل الى المجتمعات الحضارية (المنتجة للحضارة) كونها تحتاج إلى تقنيات وامكانيات متقدمة لا تتوفر عند أغلب المجتمعات المدنية فهي مستفيدة من التقدم الحضاري وتعيش في مجتمعات مظاهرها حضاري وتوفر الكثير من الوسائل والأدوات الحضارية دون إمكانية إنتاجها .
والتطور الحضاري المتسارع في اغلب الميادين العلمية اللحظي أصبح من الصعب إدراكه وتصوره حتى في المجتمعات الحضرية المتقدمة ؛ وامام هذا الغزو التكنولوجي تضائل الدور الفكري والأخلاقي والروحي للإنسان واصبح ذلك حالة ترفية حالمة وتحجم الدور الإنساني .
وبفعل هذا التطور الحضاري والغزو التكنولوجي اصبحت خصوصية الانسان مهددة او انها تقلصت واصبح من الصعوبة الاحتفاظ بهذه الخصوصية لكون هذه الخصوصية تمر من خلال التقنيات الحضارية! ؛ بل اصبح الانسان يحارب من أجل الاحتفاظ ببعض من خصوصياته !
ليس هذا على الصعيد الفردي فحسب بل على صعيد الاممي والشعبي وتهددت خصوصيات الشعوب خصوصاً منها الشعوب المتقدمة حضارياً هي الاخرى فشلت في الاحتفاظ بخصوصيّتها أمام غزو العولمة المتصاعد واندحرت الكثير من العادات والتقاليد والثقافات وحلت مكانها عادات وتقاليد وثقافات ولهجات واختفت حقائق وافكار لتحل محلها وبمرونة وتقبل عالي وانسيابية تقاليد وثقافات وافكار ولهجات (عولمية) جديدة نتقبلها ببداهة ساذجة وتلقائية مستسلمة زحفت عادات وخصوصيات جديدة وحلت علاقات انسانية جديدة لا نملك قبولها ولا رفضها لأنها مفروضة بميزان الحضاري المتجدد ورفضها (قد) يعني التخلف والرجعية وسخرت الآلة الاعلامية الجبارة للعولمة بصفتها ظاهرة حضارية لتطبيع وفرض كل ما تريده حتى الشذوذ والممارسات الا إنسانية وهكذا زحفت العولمة الى ان وصلت الى فرض أديان سماوية على البشرية فكانت (الابراهيمية) الدين العولمي القادم الذي يريد توحيد كل الاديان بدين واحد جامع ! فالحضارة المعاصرة فقدت الكثير من القيم الروحية والمعنوية لحساب التطور المادي الذي يعمر الحياة ولكن هناك تطور تدميري قد يعصف بالحياة ومن ذلك تطور مفهوم (الحرب) بفعل تطور أسلحة الدمار الشامل (النووية والكيماوية والبيولوجية والكوبولتية) الذي تهدد بدمار البشرية (هناك نحو 13,000 رأس نووي حول العالم منها 6000 راس في روسيا فقط ! هذه الأسلحة قادرة على محو البشرية وتدمير الارض والحضارة وتهديد مستقبل البشرية (استخدامها قد يؤدي إلى حروب شاملة أو انقراض جماعي في حال اندلاع نزاع نووي واسع النطاق) ؛ كما أن التوجه الكمي للإنتاج وتلوث البيئة وعجز التقدم الحضاري العظيم عن مواجهة الكثير من الكوارث الطبيعية المختلفة (الزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير) التي قد تدمّر البنية التحتية للحضارة ! واستبدل الإنجاب الطبيعي بالحضانة نتيجة شيوع الشذوذ أو ثقافة تحديد النسل المفرط الذي يتلائم مع الحياة الحضرية (2.1 % معدل الإحلال معدل الإنجاب المناسب للنمو السكاني يُعرف باسم معدل الإحلال السكاني ، وهو المعدل الذي يُبقي عدد السكان ثابتًا دون زيادة أو نقصان على المدى الطويل ؛ في الدول المتقدمة “المتحضرة” يُقدّر أقل معدل الإحلال السكاني بحوالي 2.1 طفل لكل امرأة. ذا كان معدل الإنجاب أقل من معدل الإحلال لفترة طويلة، فإن عدد السكان يبدأ بالتراجع ؛ في عام 2025، جميع الدول الأوروبية تقريبًا تحت هذا المعدل ، باستثناء موناكو التي سجلت معدلًا دقيقًا يبلغ 2.1 ، بلغاريا1.7 ؛ فرنسا 1.6 ؛ المملكة المتحدة1.5 ؛ أوكرانيا 1.0 ؛ - بلغ معدل الإنجاب في الولايات المتحدة حوالي 1.6 طفل لكل امرأة ، وهو أقل بكثير من معدل الإحلال المطلوب⁾. الولايات المتحدة تحت هذا المعدل منذ عام 2007 ، ويُعزى ذلك إلى تغيرات اجتماعية واقتصادية مثل تأخر الزواج او العكوف عنه ، ارتفاع تكاليف المعيشة الباهضة مما يجبر الكثيرين على العمل في اكثر من مجال أو العمل ساعات إضافية!) . و برز عصر الذكاء الاصطناعي والتسويق المفرط، حتى اصبح الإنسان مهددًا بأن يُختزل إلى «مستهلك» أو «بيانات» كما أن الاعتماد المفرط على التكنولوجيا أدى إلى تراجع دور الإنسان كفاعل حقيقي في العالم وفي ظل هذا التوجه الرهيب لقاطرة الحضارة بهذه السرعة الإنفجارية الهائلة وبلا توقف ومن دون اي مراجعات ولا اي توقفات لمراجعة هذا الإندفاع الغير منضبط ومن دون أي حدود ؛ والإنسانية في آخر حساباتها (نظرية المليار الذهبي الغربية تفترض أن موارد الأرض لا تكفي لتوفير نمط الحياة الغربي المترف إلا لحوالي مليار شخص فقط) .
لا خصوصية ولا ابداع إنساني وكل ما حولنا مصنوع وتضائل الدور الإنساني وحل الذكاء الصناعي محل البحث و الإستطلاع والتجربة والتميز الإنساني ؛ وفي ظل هذا التغول والانفجار العلمي المتلاحق بدأت تظهر تحديات معاكسة لهذا التغول على حساب إنسانية الإنسان فبقدر ما تفرض التحديات الحضارية نفسها على البشرية هي الاخرى تواجه تحديات داخلية قد تحددها وتسعى لإستعادة الإنسانية على المدى البعيد وكما يرى المفكر الانكليزي (كولن ولسون) في كتابه سقوط الحضارة (أن الحضارات لا تنهار فجأة ، بل نتيجة تراكمات داخلية وخارجية!) ؛ او كما دعى عبدالوهاب المسيري إلى (حداثة إنسانية متجذرة في الإيمان، توازن بين العقل والغيب، وبين الفرد والمجتمع، وبين المادة والروح). ذلك أن الحضارة المعاصرة فرضت قيم جديدة تشوه حتى الوجه الجميل للإنسانية (الشذوذ الجنسي وزنا المحارم والعلاقات الغير طبيعية حرية شخصية وأصبحت الأسرة منظومة بالية لابد من إفراغها من محتوها إعادة النظر في العلاقات الجنسية على اسس جديدة بعيدة عن الدين والاخلاق لأن المنظومة الدينية ثبت فشلها ؛ البشرية ليسوا سواء وهناك انواع من الابادات الجماعية لابد من تقبلها من منضور حضاري عدا المجاعات والفيضانات والزلازل والحروب...الخ ورغم أن الحضارة في جوانبها العلمية مسخرة لخدمة الانسان إلا أن هذا التطور المتسارع الهائل ولد نتيجة التداعيات الحضارية علاقات جديدة وقلق وجودي وصراع مع واقع صعب جداً له متطلباته الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والمادية اللامتناهية يجب التناغم معها لمن أراد البقاء والإستمرار وبدأت بالظهور بعض أمراض العصر المستعصية (أمراض العصر هي تلك التي أصبحت شائعة بشكل كبير في السنوات الأخيرة نتيجة لتغير نمط الحياة و الضغوط النفسية والتطور التكنولوجي السريع) ومنها أمراض القلب والشرايين والسكري والسمنة الأضطرابات النفسية وامراض الضغط وأمراض القلب والشرايين (الأمراض المزمنة غير المعدية مثل القلب والسكري والسرطان تمثل حوالي 74% من إجمالي الوفيات عالميًا سنويًا تضاعف عدد الوفيات الناتجة عن أمراض القلب خلال العقدين الماضيين، لتشكل 16% من إجمالي الوفيات وتسبب داء السكري في وفاة 1.6 مليون شخص في عام واحد ، مقارنة بأقل من مليون وفاة عام 2000 - تضاعف عدد الوفيات الناتجة عن الخرف بين عامي 2000 و2016، ليصبح السبب الخامس للوفاة عالميًا بعد أن كان في المرتبة 14. و- تشير التقديرات إلى أن الاكتئاب أصبح من أكثر أسباب الإعاقة عالميًا ، خصوصًا بين الشباب والنساء. وأصبح - التلوث البيئي من أهم مشاكل هذا العصر وساهم في زيادة الامراض وتعقيداتها.
وأصبح تناول المخدرات حالة شبه عادية في الكثير من المجتمعات وهي ممارسة شخصية لا يمكن تقييدها بالمنظور الحضاري المعاصر (بحسب تقرير المخدرات العالمي لعام 2024 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، فإن نسبة تعاطي المخدرات في العالم شهدت زيادة بنسبة 20% خلال العقد الأخير ، ليصل عدد المتعاطين إلى نحو 292 مليون شخص في عام 2022 ) . هذا عدا المشاكل الإقتصادية التي بدأت تفتك بالمجتمعات النامية ومنها التضخم الإقتصادي والغلاء وتنامي ساعات العمل ؛ التغول والوهم الاعلامي. التمييز العنصري المليار الذهبي الهيمنة السياسية والاقتصادية العامل الديني والاخلاقي فقدان القيمي لذا بدأت تقرع اجراس التحذير و بدأت تظهر ظواهر فردية واحياناً جماعية للتراجع عن هذا السباق المادي المتسارع وبداء التفكير بأدوات عملية لإعادة بناء الإنسان من الداخل! يمكن للوعي الفعّال أن يكون مفتاحًا لتحرير الذات من العدمية، وإعادة إشعال شرارة الحياة الطبيعية من جديد . وهناك بالفعل منظمات ودول تسعى للحد من التغوّل الحضاري المادي، وتحاول إعادة التوازن بين التقدم التقني والرقمي وبين احترام الإنسان وخصوصيته وهويته الثقافية. منها منظمات حقوق الإنسان واليونسكو و التحالف العالمي للأراضي الجافة - وتُعنى بالاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية. بل هناك دول تُعرف بسياساتها التي توازن بين التقدم التكنولوجي وحقوق الإنسان منها دول الشمال الأوروبي (مثل فنلندا والنرويج) ومن الدول العربية المغرب وهناك من المفكرين والفلاسفة من حذر من خطورة هذا التغول الحضاري منهم (مارتن هايدغر (Martin Heidegger) و إريك فروم (Erich Fromm) و عبدالوهاب المسيري و جاك إيلول (Jacques Ellul) ومالك ابن نبي إضافة إلى كولن ولسن في كتابه سقوط الحضارة .
لكن ما بالنا ونحن في العراق نشهد سقوط المدنية ؟!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram