عبد الخالق كيطان
لمنتدى المسرح في شارع الرشيد رهبة. رهبة تتوهج عندما تدلف إلى باحته سواء أكان المدخل من جهة نهر دجلة الهادئ أو من جهة الشارع العتيق. ثم تتوهج الرهبة لتشتعل جذوة تشبه الخلاص إذا ما كان العرض المسرحي متألقا. يحدث ذلك كثيرا، ولكنه ليس دائما. كانت إقبال نعيم مثل عودة كبريت في تلك العروض. تنير ظلام القاعة، وتحترق بعد انتهاء العرض.
ولكن، لماذا بدأت الحديث من منتدى المسرح، من أول التسعينيات الحزين، ولم ابدأ من تاريخ أقدم، هو التاريخ الحقيقي لظهور إقبال نعيم في المسرح العراقي، ممثلة تلفت الأنظار؟
الحق أقول إن ذلك يشبه حديث النقاد عن ارتباط ممثل ما بفرقة المسرح الفني الحديث. هو نوع من العلاقة التبادلية التي تعطي للاثنين حضورا يمثل علامة في التاريخ الفني للبلاد.
يمكنك أن تعود إلى تاريخ إقبال نعيم في المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة والدوبلاج.. بل وحتى في الإدارة.. كل ذلك متاح، وهو مهم حتما في سيرتها الحياتية والابداعية.. ولكنني هنا أذهب إلى عقد التسعينيات بقصد ووعي. والأسباب عندي واضحة جدا.. هي أسباب شخصية، ولا أنكر ذلك، وأسباب موضوعية حتمتها الظروف القاسية التي عشناها معا.
منتدى المسرح منذ بداية التسعينيات كان آخر القلاع النظيفة بوجه القبح. وأيضا، استدرك بالقول أن مسيرة هذا المسرح بدأت قبل ذلك بنماذج رصينة.. ولكن.. للتسعينيات وقع خاص.
ولم تكن إقبال وحيدة. بل عضو فعال في مجموعة من الحالمين والمغامرين.. كانوا مجموعة من حرف مختلفة: فيهم الممثل، الكاتب، الموسيقي، الناقد، المخرج، الصحافي، مصمم الإضاءة والديكور، المصوّر. فيهم ومنهم جمهور يتبادل، لا وجهات النظر فقط، بل حتى كسرة الخبز في زمن الجوع والخذلان.
ومن بين الفتيات كانت إقبال وحدها الثابتة في الصورة المائلة على جدران المنتدى. صورة بشخصيات مختلفة ومتعددة. أما غيرها، فكنّ يحضرن مرّة ويغبن مرّات.. موهوبات، أو من طالبات معهد وأكاديمية الفنون الجميلة، أو محترفات من الفرقة القومية للتمثيل، بل وحتى عابرات في لحظة عارية.
وإذ كان الآخرون معلومون، فهم نخبة جيل التسعينيات على أي حال، فإن إقبال كانت الوردة التي تجتمع عندها تجارب فن الممثل، فتتلاحم الرؤى وتحدث الرهبة التي تتحول إلى جذوة. هذه المجموعة قدمت أعمالا لا تنسى وقعها مخرجون من أجيال مختلفة وصارت هذه الأعمال تمثل مرجعا لا مناص عنه في ذاكرة المسرح العراقي.
وكنت في نهاية كل عرض من هذه العروض، حتى تلك التي لا انسجم معها فنيا، أذهب إلى الكواليس لمصافحة فريق العمل. تقليد مسرحي تعلمته من أساتذتي. وكان أعضاء فريق المسرحية يتصببون عرقا، وهم يستقبلون التهاني. تلك اللحظات في منتدى المسرح لا تشبه غيرها. أما إقبال نعيم فيها فلم تشذّ. كانت ابتسامتها البريئة لا تفارق وجهها، وهي تسأل بلطف عن ردود الأفعال بعد انتهاء العرض. نسخر مما تبقى في باحة المنتدى من قطع ديكورية وأكسسوارية. نغمز بعضنا عن جملة “خطيرة” ألقيت في سياق العرض، ويعلو صوتنا ونحن نرحب باسم كبير من عالم الثقافة جاء محييا.
شاركت إقبال نعيم في أبرز عروض تلك المرحلة التي قدمت في المنتدى، ونخصّ بالذكر المسرحيات التي أخرجها الفنان ناجي عبد الأمير: دزدمونة، هاملت بلا هاملت، الحريم والخادمات. وبالطبع فلقد لعبت في تلك المسرحيات مختلف الأدوار، أو باختصار شديد جسّدت وجهي المسرح التاريخيين بإتقان ومهارة.
على أن من الجحود حصر أعمال إقبال بعروض المنتدى، فهي قدمت مع المخرجين سامي عبد الحميد، د. صلاح القصب، عزيز خيون، عوني كرومي، هيثم عبد الرزاق، عواطف نعيم، د. فاضل خليل وغيرهم العديد من الأدوار الناجحة والانماط التمثيلية.
رحيل إقبال نعيم المفاجئ اعادني إلى مبنى المنتدى، وإلى شخوص من المؤلم أنهم غابوا تماما عن المشهد لأسباب طبيعية وغير طبيعية. كانت إقبال وردة جيل الثمانيتسعنيات، مجتهدة في التمرين مثل اجتهادها في العرض. في النقاشات الجانبية كما في الندوات الرسمية. كان حضورها لازما في مسرح حقيقي.. وغيابها اليوم علامة أيضا على زمن يأفل.
إقبال نعيم وردة جيل "الثمانيتسعنيات"

نشر في: 29 سبتمبر, 2025: 12:02 ص









