TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: غرفة صبيح عفوان

باليت المدى: غرفة صبيح عفوان

نشر في: 29 سبتمبر, 2025: 12:05 ص

 ستار كاووش

كيف يمكننا الأمساكَ بشيء من أيامنا القديمة وإسترجاعها هنا على الورق؟ كيف نستعيد الأحداث والشخصيات التي نحبها دون أن ننسى تفاصيل مهمة أو أحداث مؤثرة. بكل الأحوال لا بأس من المحاولة، مادامت الصداقة هي التي ستقول كلمتها في النهاية. وهذا ما أحاول كتابته هنا كتحية الى صديق أعطاني الكثير من روحه وترك أثراً في نفسي أو بالأحرى فتح نافذة مضيئة في حياتي ورسم وشماً للمحبة لا يمكن محوه أبداً. أنه صبيح عفوان الناقد والمثقف الذي كان ومازال مرادفاً للجمال الذي عشناه أنا ومجموعة كبيرة من الأصدقاء في أيام بغداد التي مرت سريعاً مثل طائر خرافي .
منذ أن رأيته أول مرة يتحدث مع شهاب الفضلي وجاسم لطيف بمحاذاة مقهى شارع الشركة بمدينة الثورة، شدني بلباقته وإيجاده للكلمات المناسبة التي تجعل الآخرين يستمعون له بمحبة واهتمام، وما زادَ من حضور هو مظهره الرياضي ووسامته اللافتة. كنتُ أمسك وقتها حقيبة صغيرة مليئة بمجموعة من تخطيطاتي التي أنتظر أن أحملها معي للتقديم لدراسة الرسم في أكاديمية الفنون. هناك قرب المقهى ناداني جاسم قائلاً (هذا هو صبيح الذي حدثتك عنه)، وما أن تحدثنا بضع كلمات حتى خُيِّلَ لي بأني أعرفه منذ زمن بعيد. ومنذ تلك اللحظة بدأت صداقة عظيمة مليئة بالكثير من الأفكار والتطلعات. كان صبيح محباً وكريماً يفتح بيته لنا نحن اصدقاءه لجلسات استثنائية تختلط فيها الأحاديث بدخان السجائر والتطلعات وهموم الثقافة والكتب والرسم وآخر القراءات. ووسط كل ذلك كان صبيح هو الباديء بالأفكار والحلول، وبقي دائماً مرآة للثقافة التي تُشذب تصرفات الانسان وتجعل تلقائيته نبيلة ومحببة.
ومثلما كان صبيح ماهراً في صنع البهجة وبارعاً في نسج التواصل مع الأصدقاء، فهو قد اشتغل في كل كتاباته وآراءه على التحليل النفسي واللذة التي ينتجها إنجاز الكتابة أو الرسم أو المسرح وإهتم بشكل خاص على تجارب المبدعين الذين لديهم مناطقهم الخاصة ولا يتعكزون على تجارب الآخرين. وعندَ كل تواصل بيننا كانت لديه أفكاراً وتصورات جديدة، حتى بدا لي أنه ينظر الى كل لوحة أو إنتقالة جديدة لي بطريقة مختلفة عن الآخرين، وأشاهد في عينية سعادة تشع منها الطاقة والسند، إنها قوة الجمال التي تركها في روحي. وأتذكر كيف إقترحَ صبيح تسمية (جسد المدينة) عنواناً لمعرضي الشخصي الذي أقمته في مركز الفنون سنة 1991، لأنه رأى فيه انعكاساً سايكولوجياً لروح بغداد وزحام شوارعها واكتضاض ساحاتها، فكان ذلك بمثابة هدية عظيمة لي، وفي الافتتاح بعد أن نقلنا لوحات المعرض معاً في شاحنة، توقف من جديد أمام لوحة عازف الساكسفون التي كانت تتصدر المعرض وحدثني كثيراً عنها. وعند انتهاء المعرض أرجعنا اللوحات الى المرسم بذات الشاحنة، ثم أكملنا طريقنا الى بيته حيث علقنا لوحة عازف الساكسفون في الغرفة التي تجمعنا كل يوم. تلك الغرفة الشهيرة التي كُنا نلتقي فيها نحن أصدقاءه في مقدمة بيتهم، والتي تحولت الى منتدى ثقافي للشعر والمسرح والرسم والحوارات الفلسفية والحديث عن آخر الكتب، ووسط كل ذلك كانت أطباق الطعام التي تحضرها والدته الرائعة تتدفق دون توقف، فيما يُخرج هو أحياناً قناني الشراب من زوايا سرية لا يعلم بها أحد. وكلما علا دخان السجائر في فضاء الغرفة، كلما أرتَقَتْ معه سحابة التحليلات النفسية التي برعَ بها صبيح ومازال متربعاً على عرشها. يا للصحبة ويالجمال الانسان حين يكون مثل هذا الصبيح البوهيمي الذكي والمثقف العارف.
ما زالَ صبيح في بغداد يفكر بجسد المدينة وفرحها وإحباطاتها أيضاً، وما برحَ يروض أفكاره وإستعاراته الفريدة ودعاباته الذكية، يمضي دون توقف ملاحقاً الجمال والتطلعات الكبيرة والافكار الأصيلة. فيما مضيتُ أنا مع أيامي بعيداً، لكن مع ذلك ظلَّ صبيح بالنسبة لي مرادفاً لكل جمال أراه ولكل إنسان باهر أقابله. سنوات تفصلني عن تلك اللقاءات، وقد حالفتني الظروف وأقمتُ معارضاً عديدة في صالات عرض مدهشة ومتاحف حديثة أو تعود لعصر الباروك، لكن غرفة صبيح البعيدة تلك هي التي شكلت الكثير من وجداني واندفاعاتي وافكاري، تلك الغرفة التي رغم صغر حجمها، لكنها كانت أوسع من متحف وأجمل من جمعية فنية، حيث بدا لنا وقتها أن كل شيء جميل قد بدء في تلك الغرفة التي اعتبرناها نحن الشباب الطموحين بمثابة صالون ثقافي لنا، نحن الذين صرنا -رغم فقرنا- أغنياء بوجود صبيح وغرفته التي كانت تؤوينا مثل رداء نحتمي به. ولو عاد بي الزمن الى أيام بغداد البعيدة، لما إخترت سوى جلسة واحدة في تلك الغرفة الجميلة صحبة الأصدقاء، نتبادل أحاديثنا الصاخبة فيما يضع صبيح كعادته علب سجائر (كولد كوست) على الطاولات الصغيرة التي أمامنا ويلتفت نحوي بهدوء وهو يهز رأسه خلسة، كإشارة الى أن لديه ما سنبلل به عروقنا. يا لبغداد التي تنجب مثل هذه الشخصية الجميلة، بغداد التي كنتُ ومازلت أراها في وجه صديقي صبيح عفوان.
أكتب الآن عن صديقي، وأتذكر كيف كنا ننتظر أن تُهيء لنا والدته الطعام في حرارة الصيف، حيث ينضج الخبز في خلفية البيت، فيما تنضج أفكارنا في حرارة غرفة صبيح بمقدمة البيت، وقتَ كانت التطلعات كبيرة والأحلام واسعة والدعابات غير قابلة للتوقف.
وبعد كل هذه الفترة الطويلة، ظلت مكانة صديقي خاصة ومضيئة في نفسي، بل تزداد قيمة مع مرور الأيام. ورغم قضائي نصف عمري في هولندا، متنقلاً بين المتاحف والزهور التي تملأ البلد، لكني لن أنسى الزهور التي زرعها صبيح في روحي، تلك الزهور التي مازالت تفوح منها رائحة الصداقة والذكريات والأيام الفريدة التي لا تُنسى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. kremabdalsada@gmail.com

    منذ 2 شهور

    سلامي ومحبتي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram