TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الدعاية الإنتخابية بين الهوية البصرية ووعي الناخب العراقي

الدعاية الإنتخابية بين الهوية البصرية ووعي الناخب العراقي

نشر في: 30 سبتمبر, 2025: 12:01 ص

د. طلال ناظم الزهيري

مع اقتراب كل دورة انتخابية لمجلس النواب العراقي، تتحول الشوارع إلى لوحات إعلانية ضخمة تتزاحم فيها صور المرشحين وشعاراتهم. ألوان لافتة، بوسترات عملاقة، ووعود براقة تملأ الفضاء العام، حتى يكاد المواطن يشعر أنه يعيش في معرض دائم للصور والشعارات. ومع هذا المشهد المكرر في كل موسم انتخابي، يبرز سؤال جوهري: هل ما زالت هذه الحملات الدعائية قادرة فعلاً على التأثير في قرار الناخب العراقي؟ وهل تستحق كل هذه المبالغ الطائلة التي تصرف عليها؟ بل ومن أين تأتي أصلاً كل هذه الأموال في بلد يرزح تحت أزمات اقتصادية وخدمية مزمنة؟
ان محاولة تفكيك المشهد الانتخابي يكشف أن الصورة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه. فهناك فئة واسعة من المقاطعين الذين فقدوا الثقة بالعملية الانتخابية برمتها، إما نتيجة إحباط متراكم من تجارب سابقة لم تحقق تطلعاتهم، أو بسبب شعورهم أن الانتخابات مجرد إعادة تدوير للنخب ذاتها دون تغيير حقيقي يمس حياتهم اليومية. هذه الفئة غالباً ما تنظر إلى الدعاية الانتخابية بعين الريبة أو الاستفزاز، وترى فيها هدراً للأموال في بلد تعصف به الأزمات، وبالتالي تبقى خارج دائرة التأثير تماماً. في المقابل، نجد المؤيدين الذين حسموا أمرهم مسبقاً بدعم مرشح بعينه، سواء بدافع المصلحة المباشرة، أو الانتماء الحزبي، أو العشائري، أو الأيديولوجي، وهؤلاء لا يحتاجون إلى لافتات أو شعارات لإقناعهم، بل غالباً ما يتحولون إلى جزء من ماكينة الترويج الانتخابي بأنفسهم. على الطرف الآخر، هناك المعارضون الذين قرروا سلفاً رفض مرشح أو حزب محدد، بدوافع سياسية أو طائفية أو شخصية، وهؤلاء لا تؤثر فيهم الحملات الدعائية، بل ربما تدفعهم إلى مزيد من التشدد في موقفهم. تبقى الفئة الأهم، وهي الكتلة الرمادية أو المتأرجحون، التي تمثل الهدف الحقيقي لكل هذا الزخم الإعلاني. هؤلاء يؤمنون بالعملية الانتخابية ويرغبون بالمشاركة لكنهم لم يحسموا خياراتهم بعد، وقرارهم غالباً ما يتأثر بمزيج من العوامل مثل الخطاب السياسي، السمعة الشخصية للمرشح، مواقفه من القضايا الراهنة، وأحياناً عناصر الهوية البصرية للحملة إذا جاءت ذكية ومقنعة.
غير أن معظم الحملات الانتخابية في العراق ما زالت تخاطب هذه الفئة بطرق تقليدية تفتقر إلى الابتكار والتحليل النفسي والاجتماعي، فبدلاً من تقديم برامج واقعية وخطط عملية تحفّزهم على حسم قرارهم، تكتفي بالشعارات الفضفاضة والوعود الكبيرة التي فقدت بريقها منذ سنوات. وإذا أضفنا إلى ذلك الهوية البصرية للحملات نجد أنها في كثير من الأحيان تكشف خللاً واضحاً في قراءة المزاج الشعبي. فمعظم اللافتات تعيد إنتاج نفس القوالب النمطية: صورة المرشح ببدلة رسمية وابتسامة واسعة، شعار عن الوطن أو العدالة أو التغيير، ووعود براقة سمعها المواطن مراراً دون أن يرى لها أثراً في حياته. الناخب العراقي اليوم أكثر وعياً ونقداً، وقد خبر هذه الشعارات في دورات انتخابية سابقة، ولم يعد يتأثر بالخطابات ذات السقف العالي التي توعد بالرخاء والعمران أو بالعدالة الاجتماعية والمساواة. الأمر لا يتوقف هنا، بل يمتد إلى البعد الطائفي الذي لا يزال حاضراً بقوة في المشهد الانتخابي. إذ يتجنب معظم المرشحين نشر دعاياتهم في المناطق التي تختلف معهم طائفياً، وكأنهم يدركون مسبقاً أن أصوات تلك المناطق ليست ضمن حساباتهم الانتخابية. هذا السلوك يكشف أن الطائفة ما تزال المحرك الأبرز في خيارات نسبة كبيرة من الناخبين، وأن الخطاب الانتخابي لم يتطور بعد ليكون جامعاً وعابراً للانتماءات الضيقة. وبدلاً من أن تتحول الحملات إلى فرصة لخلق حوار وطني يوحد الناخبين حول قضايا مشتركة، نجدها تكرّس الانقسام وتعكسه بصرياً وجغرافياً من خلال أماكن انتشارها ورسائلها الضمنية.
ومع كل ذلك، يستمر سباق اللافتات والشعارات العملاقة في شوارع العراق، رغم أن أغلب المجتمع قد حسم موقفه مسبقاً، والمتأرجحون لم يعودوا يصدقون الخطاب التقليدي، ومعظم المرشحين يكتفون باستهداف دوائرهم الضيقة. وهنا يعود السؤال بإلحاح: ما جدوى إنفاق ملايين الدولارات على هذه الحملات؟ ومن أين تأتي كل هذه الأموال في بلد يواجه فجوات خدمية وبطالة متزايدة ومشاريع تنموية متوقفة؟ إن الإصلاح الحقيقي يبدأ من إنتاج خطاب سياسي واقعي وبرامج عملية تلامس هموم الناس، ومن صياغة هوية بصرية ذكية وصادقة تتجاوز الطائفة والحزب لتخاطب الإنسان العراقي كإنسان أولاً، لا مجرد رقم في معادلة انتخابية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

الأقليات وإعادة بناء الشرعية السياسية في العراق: من المحاصصة إلى العدالة التعددية

عندما يجفُّ دجلة!

كلاكيت: المدينة والسينما حين يصبح الإسفلت بطلًا

مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاكرة

العمود الثامن: ماذا نريد من الانتخابات؟

 علي حسين قال لي أحد الزملاء هل أنت متفائل بنتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت امس ؟ قلت له أنا"متشائل"على طريقة الكاتب الفلسطيني الراحل أميل حبيبي، ومثل بطل روايته أبي سعيد، أريد ألاّ أحترس...
علي حسين

قناطر: لا بندقية بيد الرئيس

طالب عبد العزيز مع أنَّ الخلطة غير المتجانسة هي الصفة العامة للمرشحين في الدورة الانتخابية الحالية، فهي نسيج غريب، ينطبق عليه المثل العراقي (من كل زيج رَكَّه)، أو هي (زبالة الخيّاط)، إلا أنه وبعد...
طالب عبد العزيز

مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاكرة

جورج منصور شكَّل الوجود المسيحي في بلاد النهرين، منذ نهايات القرن الأول الميلادي، امتداداً طبيعياً لتاريخ البلاد. هنا قامت أولى الكنائس، وتأسست المدارس والرهبانيات، وانطلقت منها الترجمات الأولى التي نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية...
جورج منصور

قراءة في كتاب (البعث كما عرفته)

زهير كاظم عبود يقدّم الكتاب بمقولة لقائد بعثي سابق (سامي الجندي) يقول فيها: أصبح البعثيون بلا بعث، والبعث بلا بعثيين، أيديهم ملطخة بالدم والعار، يتسابقون إلى القتل والظلم والركوع أمام مهماز الجزمة. تُعبّر الصراحة...
زهير كاظم عبود
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram