غي هارشير ترجمة: رشا الصباغ (الجزء الحادي عشر)سعياً لوعي ينفتح على مديات تنويرية هي من مستلزمات البناء الديمقراطي الجديد، وتحصيلاً لفائدة الاطلاع على تجارب العالم في الارتقاء بالانسان وحقوقه، تعيد آراء وأفكار نشر كتاب العلمانية، على حلقات، للكاتب غي هارشير وبترجمة رشا الصباغ.rn
ما ضمانة الرابط الاجتماعي:الدين أم الأخلاق العلمانية؟ ضمن سياق تاريخيّ-فلسفيّ كهذا، ينبغي، في رأيي، فهمُ المعركة التي دارت في نهاية القرن التاسع عشر، حول دروس التعليم الدينيّ ودروس الأخلاق العلمانيّة: فقد كانت المسألة تتركّز في معرفة ما الذي يشكّل الضمان للروابط الاجتماعيّة، أهو الدين أم (شيء آخر)، أي أخلاق من وحي إنسانيّ صرف. وقد حظيت هذه الأخيرة بميزة التفوّق على المذاهب عندما بدت قابلةً للتشارك بين أفراد الشعب كلّه، ومقبولةً افتراضيّاً لدى من أسماهم بيريلمان بالـ (الجمهور العامّ) ؛ ولكن مساوئها تمثّلت في طابعها المتلاشي: لقد كان ينبغي أن تكون، من حيث المبدأ، سهلة الوصول إلى جميع المحاورين ذوي النيّات الحسنة (وليس فقط لأولئك الذين يتشاطرون مبدأً أو إيماناً محدّداً)، غير أنّ مضمونها أثار قضيّة إشكاليّة. إذ لم يقصَّر بالطبع في محاولة (تعريفه) بالوسائل الأكثر قابلية للجدل، وقد لعبت العقلانيّة أو الوضعيّة، والماديّة الجدليّة، وجميع النظريّات (الدنيويّة) البحتة التي يُزعَم أنّها (علميّة) والمتعلّقة بالرابط الاجتماعيّ، لعبت دورَ نوعٍ من الأسطورة المعكوسة، دور الأسطورة (العلمانيّة) (إذا فُهمت كأخلاق يُزعم أنّها تتمتّع بموضوعيّة خالصة مرتكزة على العلم). الحقيقة أنّ الأخلاق الدينيّة والأخلاق (العلمانيّة)، قد ظلّت، في الوقت الذي تطمح فيه إلى العموميّة، حبيسة الخصوصيّة: الأولى لأنّ حقيقتها لا قيمة لها إلاّ في نظر الفئة التي تؤمن بها في المجتمع؛ والثانية، لأنّها تسعى، ربما دون جدوى، لأن تكتشف، باستخدام العقل الطبيعيّ المجرّد، موضوعيّة ميتافيزيقيّة أو علمويّة، ثمة اليوم جملةُ أسباب تدعو للاعتقاد بأنّها قد أفلتت منها حتماً. حتّى إنّ كلاّ يوجّه صراعه نحو شكل من الأشباح: فأصحاب الفكر الحرّ يحاربون صورة الدين الذي لم يعد دين الكنائس (المحرَّرة)، والمتديّنون صورة العقل البروميثيوسي، المقتحم والدغمائي الذي سبق لكانط أن فكّكه ضمن (الجدليّة المتعالية) في كتابه نقد العقل المحض (1781). إنّ تطوّر عقلانيّة معيّنة بين أيدي أولئك الذين يتطلّعون إلى أهدافٍ هيمنيّةٍ هو بالطبع مقلق للجميع، متديّنين وغير متديّنين، من حيث أنه يعرّض للخطر فصل السياسة عن الكنائس (الذي يحرص عليه بخاصّة العلمانيّون أصحاب الفكر الحرّ) وكذلك الحريّة الدينيّة (التي يتمسّك بها الكاثوليك عادة- كما تَبيَّن بمنتهى الوضوح خلال عهد إعادة الملكيّة ولكن على الأخصّ لدى تبنّي دستوري الجمهوريّتين الرابعة والخامسة، اللذين يعرِّفان فرنسا كجمهوريّة علمانيّة). بما أنّ الأمر يتعلّق بأسطورتين متناظرتين (الوصول إلى الحقيقة الشاملة للإنسان والعالم عن طريق الدين السامي أو عن طريق الدين (العلمانيّ))، فمن واجب العلمانيّين الحقيقيّين تقويضهما ومحاربتهما معاً. سيحتفظ كلّ طرف، وهذا مؤكّد، بفكرته: إذ سيشدِّد الأول على أنه في عالم هُجرت فيه الآلهة، وحده دين إنسانيّ يمكنه أن ينقذ المجتمع من الهمجيّة، بينما سيرى الآخر في فضائل العقل النقدي وفي التسامح الدنيويّ الصرف الضمانَ الأقوى لشموليّة حقوق الإنسان ولخضوع السياسة لقيم أخلاقيّة مشتركة. III - العلمانيّة والليبراليّة والمواطنة إنّ الفصل بين الدولة والكنائس، كما يجري الحديث عنه عادة في إطار النقاشات الدائرة حول العلمانيّة، لا يعبّر على الأرجح تماماً عن عملية التحرّر السياسيّ المطبّقة في المجتمعات الديموقراطيّة المعاصرة. ليس المقصود، في الواقع، إسباغ نوع من الحصانة (المكيافيليّة) على الدولة والسماح لها بتدجين المذاهب واستعبادها. بل على العكس، ينبغي على هذه الدولة ذاتها أن تقيّد سيادتها باسم احترام حقوق الإنسان، أي باسم قيم عليا. يتعيّن على الدولة إذن أن تكون (منفصلة) عن حقوق الإنسان، بمعنى أنّه لا يمكنها التذرّع بها وتحويلها إلى أداة لمصلحتها. ولأنّ حقوق الإنسان تعلو على الدولة تنفصل هذه الأخيرة تنفصل عن المجتمع المدني، أي تجسّد المصلحة العامّة تجسيداً كاملاً. ولكن عرض الأمور بهذه الطريقة ما زال غير كافٍ: فحقوق الإنسان لا تشكّل إذا صحّ القول سوى مصلحة عامّة (ضئيلة)، إنّها تشكّل، بتعبير آخر، الشروط نفسها لأيّة حياة بشريّة لائقة ولأيّة حياة مشتركة مع الغير، نظراً لأنّها تكفل لكل فرد البحث الحرّ عن الحياة الصالحة، مع احترام الحقّ نفسه بالنسبة للآخرين. والحال أنّ تأويلاً ليبراليّاً بحتاً للعلمانيّة قد يكتفي بفكرة الدولة-الحَكَم هذه، والتي تضمن الحريّات الكبرى: حريّة الضّمير والعبادة والتعليم والاجتماع، بكلمة موجزة، الدولة التي تترك كليّاً لأفراد المجتمع المدنيّ التصرّف مع اختزال دورها إلى مجرّد دركيّ. إنها نزعة نجدها حاضرة بشدّة في الولايات المتّحدة في خطاب دعاة الفوضويّة حول دولة الحدّ الأدنى: يجب على السياسة أن تكفل الحدّ الأدنى من الأمن من
العلمانية
نشر في: 16 مارس, 2011: 05:01 م