TOP

جريدة المدى > سينما > سينما فرانكو بيافولي..الرحلات السحرية للضوء والصوت

سينما فرانكو بيافولي..الرحلات السحرية للضوء والصوت

نشر في: 2 أكتوبر, 2025: 12:24 ص

علي الياسري
تبدو الانطباعية بالغة التأثير في سينما فرانكو بيافولي التي تلتقط المشهد وتؤطر احساس تفصيلاته كاِنعكاس شامل يجتمع في سلسلة لقطاته وحدة موضوعية تطغى فيها الالوان ومسارات الضوء وظلاله على الفكرة الملتحقة بها كعنصر يكمل النظرة الكلية للمنظور. قدرته على فهم تقنيات الصورة الفوتوغرافية حين مارسها لبرهة من الزمن اضافت الى عينه السينمائية فرادة اِلتقاط جوهر الفعل بلحظته وتشييد معمار البصر على التقارب البؤري كاِنتقاء تعبيري يمنح الرائي التأويل الشعوري المبتغى. اخذ من الواقعية الايطالية الجديدة ميزاتها الوثائقية وفضاء امكنتها المفتوح ليزرع عناصر افلامه كائنات حية يتحرك طيفها بين سماء الكون والانسان والنبات والحيوان حتى اصغر الكائنات السابحة في رقرقة سر الوجود الاول.
نهجه الفني
يظهر في افلامه ملامح الفن التركيبي بمفاهيم مُبسطة للكينونة والطبيعة، يسود فيها الاحساس الناهل من الواقع المحيط عوضاً عن تعقيدات الافكار. لسينماه ميزة اساسية يلعب فيها الضوء والصوت دور البطولة، ليتولد منها سلاسل صور الخيال الساحر الممتزجة بذبذبات امواج اثيرية تداعب تغريد الموجودات التي تتشارك هذا الكوكب. لدى بيافولي ادراك فريد بحس بديهي فني عالي الحساسية تجاه تكوينات الصورة وطبيعة اللقطة وعمقها والبناء العناصري ضمنها. يتم ذلك وفق مقاربة مونتاجية يتغير ايقاعها الزمني طبقاً لوعيه بإغناء الفعل الانعكاسي البصري للتكوين وتمازجه مع فاعلية وقع شريط الصوت على المُتلقي، بما يحفظ زخم التواصل ضمن مسار الفكرة الخام المتحصنة بفتنة وجمال براءة الفطرة الاولى كمحور وجود ازلي يستوعب كائناته بتوازن دقيق، وهو امر يدفعنا لفهم استغنائه عن الحاجة لحوار بشري منطوق الا ما ندر في افلامه. يتكثف الشعور المتنامي من جذوة الاحساس المرتبط بدهشة الصورة في حلقات بصرية تنسجم سرديا، عابرةً من مسار الواقع الى مُنحنى الخيال لتعود مع تداعي الذكريات للحظة الانبثاق الاولى.
فلسفته السينمائية
متماهياً مع حياة الريف الهادئة في مقاطعة بريشّا بإقليم لومبارديا الايطالي نَمّى فرانكو بيافولي رؤاه السينمائية بروية وطيلة عقود وفق نفسٍ شاعري يرتكنُ على روح الهواية النقية في ممارسة الشغف تجاه شعور السلام والطمأنينة الذي تبثه الطبيعة، فيستخلص نظرته من فلسفة جمالية تستثمر في مسار تهذيبي للنفس والذائقة يحاول الارتفاع فوق جلبة الماديات والفعل العنيف الصاخب للحياة المدنية المعاصرة بكل حمولاتها الاجتماعية القلقة والمُضنية.
تعتبر فلسفة الدائرة نسقاً رؤيوياً يحيط بمجمل اعماله السينمائية الطويلة الاربعة (الكوكب الازرق، نوستوس: العودة، اصوات عبر الزمن، عند أول نسمة للريح.) فخط الزمن الفيلمي يتقدم وفق انحناءات الدائرة متأملاً في الظواهر الطبيعية وإرث الثقافات وتبدل احوال البشر من التوهج الى الذبول فالانطفاء، قبل ان تتكرر الولادة من جديد في متوالية الوجود. يلتقط من حركة الارض حول نفسها وحول الشمس مدخل رحلاته الشاعرية بين ثنايا الليل والنهار وتغير الفصول، خالقاً ثنائيات لا حصر لها – الظل والضوء، الماضي والحاضر، الشباب والكهولة، نضارة اللون وبهتانه-. انها الاكتشافات المدهشة للزمن وبصمته على الاشياء.
الرؤى كأفلام
في فيلم (الكوكب الازرق) يأخذنا من خلال افتتاحية بصرية الى اساسه الثيمي الاول الماء وهو الغالب على سطح الارض كمساحة تمنحه تلك الزرقة النضرة. نتجول في عالم مواز تتنفس فيه البيئة وكائناتها بعيداً عن صراعاتنا وقسوة سلوكنا. يعمل شريط الصوت كراصد تعريفي لحيوات نابضة، فيمسك بأحاسيسنا خرير الماء الجاري وصرير الحشرات وصداح الطيور وهسيس الريح على اوراق الشجر وعزف وقع قطرات المطر. ترتشف الصورة في فيلم بيافولي ابتهاج براءتها اللونية من جرس الوقت الطارق لصفحة الليل بحمرة المغيب البرتقالية، قبل ان يتدثر بعباءة الاسود حتى تلك الزرقة الساحرة المحتضنة للفجر لحظة انبثاق اول مداعبات النهار. الانسان في (الكوكب الازرق) ليس سوى حلقة في دائرة الموجودات، يتفاعل مع مسارات عيشه ويقلب صفحات حاضره وذكرياته ويمنح لروحه في لحظاته الخاصة ابتسامة او دمعة. حين عُرض الفيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي العام 1982 قال عنه تاركوفسكي وكان وقتها عضواً في لجنة التحكيم (قصيدة، موسيقى، رحلة الى الكون والطبيعة والحياة.)
عند فيلم (نوستوس: العودة) يقف بيافولي على اوديسة هوميروس وفق منهجه السردي المتعلق برد الاشياء الى اصلها. فأفلامه هي استعادة للنفس الاول للسينما حيث الوجود المحض للصورة وتمثلاتها. يتجرد بطله من كل شيء اثناء الرحلة سوى ذكرياته التي ستكون مدخله للمسار الصعب، يدرك فيه هشاشة الكيان الانساني ازاء قوة الطبيعة. يغتسل تحت عباب البحر من آثامه وغروره، ويعود الى ذاته ليتجرع ذكرى افعاله القاسية. الاسلوب الشعري للمشهد يخلق اثاراً تعبيرية تتحرك في اطار زمني غير خطي ضمن واقع مضني يتعذب فيه البطل تحت سطوة مطارق المجهول وخيالات حالمة بأمل النفاذ الى شاطئ الامان. ينعكس المخرج بثقافته على تشكيل اللقطة وتكوينها باستعارات تمتزج فيها الكلاسيكية والمعاصرة حيث يحاول من خلالها منح الفيلم هويته الخاصة. كما ان انعدام الحوار يدفعنا الى الاستغراق في رمزية المشهد والحدث واقترابه من الملحمة الشعرية، دون الاذعان لمطابقتها كلياً، خصوصاً في النهاية التي تبدو مفتوحة على اكثر من تأويل، اولها نجاحه في تنقية الذات وهو ما يجعله يرى المدينة حين تقذفه الامواج بعين من وصل الى ساحل الجنة بكل النقاء والفرح والاطمئنان الذي تبثه للروح، او ان روحه ارتفعت الى العالم الاخر فوجد فيه ما تخيله للوطن الذي احب.
يستغرق المخرج الايطالي في رحلتيه السينمائيتين الاخيرتين (أصوات عبر الزمن، وعند اول نسمة للريح) بتأمل احتضان الطبيعة للانسان، وكيف يتحرك شعورياً مدركاً ذلك ام لا في دائرة اسرارها حيث الوجود الفاعل لتبدلات احوالها على مزاجه النفسي وحياته اليومية. يتجول على صفحة الايام مداعباً لحظات العزلة والهدوء للكبار وصخب الاطفال وابتهاج الشباب بحيويتهم. يرسم بالصوت والصورة غزل البرية للوجود المجاور. دورة عيش يحتفي بها بيافولي مثل دعوة محبة لتهذيب النفس وتشكيل اُطر تقارب بين الناس بعضهم البعض ومع حاضنتهم الطبيعة. بتناغم بصري سمعي يسحبنا الى مرشحات روحية تعمل على ابهار المشاعر والاحاسيس وتعيد لها بعد الفلترة فطرة الذائقة.
متوارياً في عزلته بعيداً عن ضوضاء المدن بعد ان بلغ من العمر عتيا وحتى قبلها بعقود لم يسعى بيافولى بسينماه الفريدة لمجاورة صخب الشهرة بقدر ما اراد ان يخلق هارموني فني يداعب الحواس ويحرك المشاعر ويستعيد للروح نقائها. افلامه جواهر خبيئة تبرق بالبهجة والسرور لحظة سقوطها على العين كضياء يحتفل بالحب والسلام وجماليات الوجود وطاقة كائناته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

محمود هدايت: في السينما الشاعرية لا توجد صور قطّ.. بل أزمنة

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

رحلة إلى عوالم البحر الأحمر السينمائي

مقالات ذات صلة

سينما

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

متابعة: المدى لم يلبث فريق عمل الفيلم المصري "الست" أنْ عرَض الإعلان الترويجي للفيلم الذي يجسّد حياة "كوكب الشرق"، أم كلثوم، التي تقوم بدور شخصيتها الفنانة المصرية منى زكي، حتى ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram