TOP

جريدة المدى > عام > "ضد الأمل" للعراقي مبين خشاني..حين يعيد الشعر اللغة إلى الواقع

"ضد الأمل" للعراقي مبين خشاني..حين يعيد الشعر اللغة إلى الواقع

نشر في: 5 أكتوبر, 2025: 12:03 ص

نجم والي
(1-2 )
عندما شنق البعثيون في 27 كانون الثاني/ يناير 1969، أربعة عشر مواطناً عراقياً (تسعة يهود وثلاثة مسلمين "بأصول شيعية" واثنين مسيحيين) في أول إعدام علني في ساحة التحرير في بغداد، وكان مرَّ على تسلمهم السلطة سبعة شهور وعشرة أيام، قالوا: "لقد شنقنا الجواسيس، واليهود صلبوا المسيح».
عندما حدثت مجزرة خان النص في شباط/ فبراير 1977، وقُتل المئات من المشاركين في زيارة أربعينية الحسين "مشاية" كانوا في طريقهم إلى كربلاء على يد قوات الأمن والشرطة واللواء العاشر المدرع، ودُفن أغلبهم أحياء في قبور جماعية، تحدّثت السلطات البعثية ذاتها عن "الغوغاء"... "المتآمرين على الثورة"، للإيحاء بأنهم يتصرفون بناءً على رغبة الشعب.
عندما بدأ حصار عبادان في 6 نوفمبر 1980 (بداية الحرب العراقية – الإيرانية)، نطق الديكتاتور بتصريحه الشهير: "طريق القدس يمر عبر عبادان". أما إيران فأطلقت اسم "ثامن الأئمة" على العملية التي فكت فيها الحصار، والإمام الثامن المعصوم معروف، هو علي موسى الرضا، لكي توحي أنها ضحية شيعية.
وعندما احتلت قوات المارينز بغداد، تحدّث الأميركان عن "عملية تحرير العراق"، كأن الأمر يخص عملية بسيطة مؤقتة، استئصال زائدة دودية.
وعندما تصف الأحزاب الحاكمة في العراق احتجاجات تشرين بأنها مجرد تمرد قام به أبناء السفارة "الأميركية"، تريد الإيحاء أن السفارة أمٌّ عاق أو عاهرة أنجبت كل هؤلاء الأولاد غير الشرعيين "نغولة».
وحين يؤسس الحكام أنفسهم فصائل عسكرية وأحزاباً تحمل مسميات: "دولة القانون"، "تيار الحكمة"، "عصائب أهل الحق"، "النجباء"، "حزب الله"، "الفضيلة"، يريدون الإيحاء أنهم وحدهم حراس "القانون" ورواد "الحكمة"، وحدهم "النجباء" وأصحاب "الحق" من دعاة "الفضيلة"، وأنهم صوت "الله" الذي لا يعلو عليه صوت. أما الآخرون، الذين على رأي آخر، فهم على باطل وضلال. هل حقاً ذلك؟
كم هي عدد المرات التي نتحدث فيها عن "حرب المصير" و"الدفاع عن المبادئ" و"معركة التحرير"، "القادسية"، "أم المعارك"، "أم الحواسم"، "محور المقاومة". كم هي عدد المرات التي يتم فيها ليّ الكلمات لمخاطبة الجمهور. وفي كل مرة يثبت لنا من جديد أن اللغة ليست مجالاً محمياً، بل "مُجنَّدة" يتم ليُّها حسب الحاجة: مرة باسم "الشعب"، باسم "الجماهير"، ومرة باسم "الوطن" أو "الدين". وأنها لا تُجدي نفعاً إلا عندما يُصغي المستمعون والقراء إلى الاقتراحات التي تقدمها، حين تجد آذاناً مستعدة للسماع والتصديق، بل وحتى للمشاركة، مرّة علناً وفي مرات أخرى في صمت.
للشعر كما للنثر الروائي القدرة على تجاهل كل هذه الأكاذيب وكل هذا الخداع، وعلى إعادة اللغة إلى الواقع، وتجسيد الفكر في صيغة الجمع. وحين أتحدث عن الشعر، أعني الشعر الذي ينطق بصوته الخاص، ليس شعر البروبغندا، المكتوب بلغة السلطات، بلغة الجمهور الذي يجلس تحت أعواد المشانق، الأجساد معلقة فوقه منذ أيام، وهو يفرش سفرته تحتها، يأكل من قدور الطبخ ويستمع إلى الموسيقى تحتها. أبداً، أعني الشعر الذي لا يطيق وحدته فيخرج مخاطباً الأنوات الخائفة بصيغة الجمع، ينحت لغة تنجو من فخاخ الإطناب، تبتعد عن الرطانة، لغة تمسك جمرة الأصالة، تتغنى بالحرية وتنشد قيمة الحياة.
إلى هذا الشعر ينتمي شعر العراقي مبين خشاني، إلى هذا الشعر ينتمي "ضد الأمل" الكتيب الصغير (77 صفحة) الذي صدر له حديثاً عن دار "خان الجنوب" في برلين. و"ضد الأمل" هو عنوان قصيدة متمردة طويلة كتبها الشاعر على مراحل مختلفة، بدأ فيها في أيام نشاطه في ساحة التحرير في احتجاجات تشرين 2019، مروراً في فترة إقامته في تركيا، وانتهى منها في مدينة كامن الألمانية، حيث يعيش منذ قرابة ثلاث سنوات ضيفاً على برنامج "كتّاب المنفى" لنادي القلم الألماني.
بخلاف أدب البروبغندا الذي شكل ظاهرة فريدة في العراق، بدأت بشكل خافت بأصوات شعراء الأيديولوجيا في السبعينيات، وشعراء الحرب في الثمانينيات والتسعينيات، وتصاعدت نبرتها لتصل إلى الرطانة والإسفاف بعد 2003، لا تسعى شعرية مبين خشاني إلى إقناع أحد، لا تستجدي سلطات سياسية أو دينية، مجتمعية أو مسلحة. شعريته تُعنى بمعاناة ومقاومة المحرومين من حقوقهم، لكن في جوهرها - وهذا هو الأهم - في جوهر شعريته تكمن مقاومة اللغة التي اتسمت بالحرمان من الحقوق.
لقد اختبر مبين مبكراً في طفولته عنف اللغة، في كل ما عاشه وسمعه من صيحات، في كل ما رآه من قتل ودمار في سنوات حرب "الأخوة" الأعداء 2006-2008، وما تلاها من سنوات، سنوات إزدهار الميليشيات وتكاثرها كما نبات الفطر، اللغة التي ازدادت عنفاً بالتوازي مع ازدهار ثقافة الكذب وثقافة الغنيمة بعد 9 أبريل 2003 (تاريخ دخول المارينز إلى بغداد)، وحاصرت الشاعر الشاب المولود 1998 وشدت الخناق عليه. ليس من المصادفة أن تحصل مجموعته الشعرية الأولى "مخطوف من يد الراحة" على جائزة دار الرافدين في دورتها الأولى عام 2021، هي جائزة غير رسمية، مستقلة، فهو منذ البداية قدم نفسه كصوت هو وريث لشعرية عراقية أصيلة، تكتب تاريخها الخاص بها.
المجموعة الشعرية تلك هي بداية مسار إنطلاق صوت حبيس لواحد من "أبناء مناخ مجبول بالجمال والمأساة" .. أبناء جيل "حبيس الصوت، مدفون تحت ركام حروب تنوعت أشكالها، ومخدر بآمال لا تصمد أمام أوهن حجج الواقع لكنها مفروضة كأشياء كثيرة أخرى، مثل الهوية وما يرتبط بها من أذى وآلام" (من مقدمة الشاعر في "ضد الأمل" ص7). ومن يكون الشعر بالنسبة له بداهة وليس خيار، من لا يريد أن يبقى حبيس الصوت، بل يجرؤ ويعيد اللغة " المُجَنَّدة" إلى الواقع، سيعرف سلفاً ما ينتظره من مصير، أما يكون: مسجوناً، أو منفياً أو مدفوناً تحت التراب.
ولأن الشعر بالنسبة له بداهة وليس خيار، اختار مبين خشانى المنفى، لكي لا ينتهي تحت التراب. فعل الشعر بالنسبة له التزام تام نحو تثمين قيمة الحياة والانتصار لها، ولو حصل وتورط بغير ذلك، فهو خيانة تنفي سمة جوهرية لوجوده. كأنه يعرف، أولاً في المنفى سيشعر كليته، بفرديته، كإنسان، كشاعر. شعريته التي هجسها مسبقاً، هناك أولاً في ساحة التحرير، ولمس جمراتها الأولى شعرياً مع زملائه الثائرين، تنفست هواءها النقي في كامن، استقراره في هذه البقعة من العالم، التي ليست هي بقرية ولا هي بمدينة، هي بين بين، جعلته يشعر بالحرية والأمان، الآن وهو يجلس في بيته وحيداً، يمكنه أن يصفن، أن يسترجع كل ما جرى، أنها اللحطة الحاسمة لقول كل ما لم يُقال:
سأنحت صمت عشرين سنة
حوت ما زمَّ الشفاه:
فزعاً وتنكيلاً ونهب حواس.
وألفظ ناراً سكنت سقف فمي طويلاً
حتى انطفأت على زفراتي
نجمات الليل
وليس سوى قَمَرهِ
هذا الذي يذوب على زجاج النافذة
ويقتحم وحدتي بفضول (ص13)
كأنه في الأبيات الأولى من القصيدة هذه يهيؤنا لمشاركته في هذه الرحلة الشعرية، لكي لا يصدمنا عنوان القصيدة، "ضد الأمل"، هو أيضاً تنويعة لسؤال "ما هذا الأمل؟"، والقصيدة الطويلة المتمردة على محيطها، المنعتقة من حبسها، تقول في جوهرها أيضاً إننا جميعاً مولودون في لغة محددة، في عالم "موعود بالأمل"، نخضع لقوانيه في البداية، لغة تسعى الذات إلى "طردها". ولكي لا نسمح لهذه اللغة بأن تُملي علينا العالم، علينا، بطبيعة الحال، أن نحررها من تأثيرها علينا، من خدر "آمال لا تصمد أمام أوهن حجج الواقع"، بهذا الشكل تصبح القصيدة نوعاً من الاستيطان الجديد، تفلش البنى المعترف بها والراسخة وبكل ما تحويه من سموم، سعياً منها إلى تمهيد الطريق للغة لفتح آفاق جديدة وغريبة ...
فلا هناءة في يقظة مفروضة
ولا أمان في نوم معذب
..........
سأكسر بلسان حار
جليد الساعات
موقضاً ما خبا تحت جلدي
من صواعق وبروق،
أنا سأتذكر...
يا ليلي وليل آبائي المؤبد
أرخِ سياطك
سأتذكر
سأتذكر
وأحاول نفي المعجزة
ومنح الكارثة تعريفاً
يثمن دور الصدفة في النجاة (ص14-15)
إن الشعرية التي تتصور "شمعة للأحد الدامي" و"ياساً للخميس الأسود" و"أكفاناً لبقية الأسبوع"، مثلما تتصور الطفولة المفقودة والقتلى من كل الأطراف، أو مثلما تتصور نساء البلاد، البشر العُزل، الأسرة المبتلية بالموت، بالأشخاص المنفصلين عن لغتهم، إن هذه الشعرية تسعى في المقام الأول إلى شكل من أشكال الكلام لا يُشعر بالعنف أو الكذب أو الخيانة. فبينما تُدمر السلطة بتنويعاتها سلامة الجسد البنيوي، بإسم "القانون" و"الفضيلة، بإسم "المباديء" والوطن"، بإسم "الكرامة" و"الشرف"، بإسم "الثوابت" و"الخطوط الحمر"، بإسم كل ما تفرضه من أوهام شبيهة، وكلمات يُراد منها تبوأ سلطة عقاب أعلى "الله"، تسعى شعرية مبين خشاني إلى استعادة اللغة لجسدها، وحركيتها - حريتها. لكن الأجساد اللغوية في شعريته لا تتكون من أفكار مجردة، بل من أصوات وإيقاعات وسجع وقوافي داخلية وجناس. لا يُؤلف مبين خشاني القصائد ذات البيتين أو تسعة أسطر (كما قصيدة النونيت التي اخترعتها الشاعرة الأميركية باتريشيا ديفيس)؛ كلا، مبين يستخدم اللغة كحدث، كلقاء، ويبني الحركات داخل جسد اللغة، حركات تُغيّر مجرى اللغة وتفتح روابط وصوراً ومسارات فكرية.
تعلمنا كيف إذا هبطت علينا ملائكة وشياطين
سننشغل عنهم بانتظار الكهرباء
تعلمنا كيف ننتظر عودة صديق مفقود
وحين يعود لنا جثة نقيس وزن أنفاسه،
نظرح وزن جسده الحي من وزن جثته
ونعرف ثقل ما عاش
وندرك خفة منيته (ص40).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram