TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: العجلُ الذهبيُ لعَصْرِنا

قناديل: العجلُ الذهبيُ لعَصْرِنا

نشر في: 5 أكتوبر, 2025: 12:04 ص

 لطفية الدليمي

لو خُيّرْتُ في انتقاء موضوع دراسي إلزامي على مستوى الجامعة أو الثانوية لا خترتُ الإقتصاد مع أنّني أمقته. ربما سيكون خياري خارج السياق المتوقّع. كيف يتّفق المقت مع الرغبة في الشيء ذاته؟ أريد إشاعة دراسة الإقتصاد، ثمّ على غير رغبتي أحمدُ الظروف التي جعلت مادة الإقتصاد توأدُ بعد تجربة بضع سنوات في الدراسة الثانوية. لا تفعل المقاربة المدرسية شيئاً سوى قتل الرغبة الجادة في الدراسة الساعية للفهم وطرح الأسئلة الإستكشافية ومساءلة المواضعات الراسخة. أظنُّ أنّ علم النفس يتساوى مع الإقتصاد في هذا الجانب. يصبح المرء فيه محض فأر في قفص فرويدي محكم الإغلاق!!. من شاء الفهم والدراية فعليه بالدراسة الذاتية الجادة. لا سبيل سواها.
تشكّلت لديّ عبر الاعوام قناعةٌ بأنّ القوانين الحاكمة للفرد تتمايز نوعياً عن القوانين الحاكمة للمجتمع (أو البلد، أو الحكومة، أو المجموعة البشرية). هاكم مثالاً: قد يكون الفرد ذا نزعة رواقية طهرانية، يكتفي بأقلّ القليل ليُديم متطلّبات حياته؛ لكنّ لا ينبغي للمجتمع أن يكون على شاكلة هذا الفرد. لا طهرانية مع المجتمعات. الحكومة يجب أن تسعى لحيازة أكبر قدر من المال. المال هنا ذو رمزية دلالية على القوة والأداء الإقتصادي الفاعل. عندما نقول الإقتصاد فإنّنا نعني المال بالضرورة.
رائحة المال تملأ الأجواء في كلّ مكان في هذا العالم. ألم تشمّها بعدُ؟ إنْ لم تشمّها فهذا يعني واحداً من أمريْن: حاسة الشم (الفكرية) لديك معطّلة؛ أو أنك لا تريد الإعتراف بسطوة المال ترفعاً عليها أو إنهزاماً من مواجهة قوانينها الصارمة.
ماهو المال؟ إنه لا شيء بذاته كما يقول المؤرّخ نوح يوفال هراري. هو أقربُ لأن يكون تراباً إفترضنا فيه أنّه مصنوعٌ من مادة مقدّسة، ثمّ مضينا نقدّمُ له كلّ فروض الخضوع والطاعة. المال هو (العجل الذهبي) لعصرنا، وكلنا خاضعون لقوته الرمزية وسطوته المادية. قلْ ما تشاء أنه (وسخ دنيا)؛ لكنك ستطلبه وتطمح إليه. عبارة (وسخ دنيا) الفلكلورية كثيرا ما أضحكتني لفرط سذاجتها والمراوغة المضمرة فيها. يرى (فلان) المال وسخاً مطلقاً في هذه الدنيا؛ لكنْ جرّبْ أن ترى سلوكه في تعامل ينطوي على عنصر مالي. دقّقْ في سلوكه -مثلاً- وهو ينتظر حصّته من مال موروث عن أبيه: هل سيراعي حقوق أخوته وأخواته ولن يتحايل عليهم؟ ليس كالمال ما يكشف خفايا النفوس ومخبوءاتها الحقيقية. ربما الكثرة من البشر في الأحوال العادية قد تسلك سلوكاً في حدوده الدنيا من المقبولية العامة؛ لكن عندما يحضر المال وتُشَمُّ رائحته من بعيد تتغيّرُ قوانين اللعبة ولايعود المال (وسخ دنيا) بل السيّد المطاع بلا منازع. عندما يكون المال بعيداً عن المنال لن يكفّ البشر عن إعلاء شأن المناقبية الأخلاقية وفضيلة الزهد وعدم تلويث اليد بمفاسد الدنيا الفانية؛ لكنّ هؤلاء أنفسهم سيتحوّلون وحوشاً ضارية جشعة لا تشبع متى ما جرى المال بين أيديها. أليس هذا حال العراق الحالي ومنبع كلّ أمراضه القاتلة؟
لن أقول أنك ستلهث وراء المال دوماً؛ لكنْ من المؤكّد أنك ستلهثُ وراءه إلى حدود تكفي للإيفاء بالكرامة الانسانية ومتطلبات عيشك في حدودها الدنيا على الأقلّ ؛ فليس بالخبز وحده يحيا الانسان. متطلباتُ عيشك وطبيعةُ حياتك هما ما يحدّدان نظرتك للمال وبالتالي يحدّدان - بالتبعية - سرعة لهاثك وراء المال. لهاثُ المرء وراء المال هو قانون تفرضه الضرورات المجتمعية مثلما يصلح أن يكون مقياساً حقيقياً يمكن منه معرفة السلوك الحقيقي للإنسان وطبيعة نظرته لنفسه وللآخرين: كم حجمُ الإيثارية في نفسه؟ ما طبيعة العناصر الصراعية التي تشعِلُ دوافعه في الحياة؟ كم يرى أبعد من أرنبة أنفه؟ هل يريد ( الكعكة ) له وحده؟
قلتُ أنّ رائحة المال في كلّ مكان، ويمكن شمّ هذه الرائحة في مواقف محددة قد نغفلُ عنها في العادة. وحدهما الأم (أولاً) والأب (ثانياً) -والأخوة في حدود متفاوتة- من يتعامل معك خارج حسابات المال والمنفعة المادية المشخّصة. المحبّ الحقيقي يفعل هذا أيضاً؛ لذا كان المحبون الحقيقيون عملة شديدة الندرة. المال هو صانع اللذّات – إلى حدود ما في أقلّ تقدير – مثلما هو مفجّر الخصومات. هل يستجلبُ المال بعض اللذّات؟ نعم بالتأكيد. بالمال تبتاعُ كتاباً ورقياً كان أم ألكترونياً، وبه تستطيعُ السفر ورؤية أماكن جديدة، وبمعونةٍ منه تستطيعُ إتيان أفعالٍ كانت مستعصية من دونه. لكن لكلّ شيء حدودٌ طبيعية. لكلّ لذّة سقفٌ تبلغ عنده اللذة حدّها الاقصى (المنفعة الحدّية بلغة الإقتصاد الكلاسيكي). بعدها لن ينفعك المال بشيء، سيكون فائض حاجة أو رقماً مهملاً في حساب مصرفي. هذا بعضُ ما يعانيه المليارديرات في هذا العالم. الانسان العادي ينامُ ويصحو على تمنيات قد يجلبها المال؛ لكن ماذا لو تحقق لك من المال ما يغنيك عن التمنيات والاحلام؟ أستبطلُ الاحلام لديك؟ ربما تتّخذ الأحلام شكلاً جديداً يقاربُ التطلعات الفكرية العالية ويبتعد عن الحسّية المفرطة.
(الامريكان مكروهون ؛ لكنّ أخضرهم حلو): هذا ما صرّح به أحد ساسة عراق ما بعد 2003. الأخضر هو الدولار بالطبع. هذه هي الحقيقة التي يتعامل معها حتى من يدّعي كراهية أمريكا أو أنّ المال محضُ وساخة دنيا.
عجباً لهذه الوساخة التي قد تحيي وقد تميت الأمم جميعاً، وقد تحيي وتميتُ بعض البشر وليس جميعهم على كل حال.
المال هو مشعلُ الحروب. التصارع على المال هو أصل الحرب المشتعلة في أوكرانيا والتي يسعى طرفٌ فيها لإبطال الهيمنة الدولارية على العالم مع الإستحواذ على مكامن المعادن الثمينة فيه. المال هو ما سيرسمُ معالم العالم القادم بعد نهاية هذه الحرب. في هذا السياق تابعتُ منذ أيام برنامجاً ممتازاً يكشف عن رغبة أمريكا في الإستحواذ على ذهب العالم عبر رفع أسعاره بصورة تبدو جنونية، وهذا يفسّرُ بالطبع ضعف القيمة الدولارية إزاء عملات العالم. هذه إشارة مؤكدة إلى أنّ من الأفضل للمرء أن يستعين بالذهب كملاذ آمن بدلاً عن الدولار. أعترف ثانية بأنني أكره الإقتصاد؛ لكن لا مفرّ من فهم ما يجري في العالم. لماذا نخسرُ مدّخراتنا بجرّة قلم من حاكم بنك الإحتياطي الأمريكي عندما يتلاعب بمعدلات الفائدة صعوداً أو هبوطاً، أو عندما تقرّر الحكومة الأمريكية تغيير قواعد اللعبة المالية العالمية مثلما فعل (نيكسون) في أوائل سبعينيات القرن الماضي عندما فكّ قاعدة ربط الدولار بالذهب؟ ثم أنّ هناك ترويجاً لعملة رقمية (بتكوين Bitcoin) راحت تتصاعد أقيامها مثل صاروخ فرط صوتي؛ فهل نحن على أعتاب تغيير قواعد اللعبة الإقتصادية العالمية؟ نعم، أظنّ ذلك. سيلعب الأمريكيون لعبة جديدة يسعون من ورائها إلى تصفير مديونيتهم التي فاقت حاجز الثلاثين تريليون دولار. هذه لعبتهم المفضّلة على حساب ثروات البشر. هل تبدو هذه بلطجة مفضوحة؟ نعم هي كذلك؛ لكنّها عصا القوة تفعل ما تشاء. المهم في كل هذا أن نمتلك بعض المعرفة الأساسية التي تتيح لنا معرفة ما يجري للحفاظ على ما يديمُ لقمة عيشنا في عالم متغوّل قد يتسبّب فيه توقيع (ترامبيّ) تهريجي كأسنان المنشار في دفع ملايين البشر إلى هوّة الفقر المدقع. المعرفة هنا ليست تمريناً لتأكيد القدرة الذهنية المتفوّقة بقدر ما هي ضرورة لازمة لإستمرارية العيش والحفاظ على المدّخرات الضئيلة من التلاشي.
للمال (أو الدولار الأمريكي) سطوةُ تفرض رائحته على العالم؛ ولكنّك لست مرغماً على ملء رئتيك بها إلّا بمقدار ما يديمُ حياتك. نكران الحقيقة لن يفيد مثلما أنّ التعالي عن رؤية الواقع تحت لافتة طهرانية معززة بشعارات فلكلورية لن يفيد أيضاً. وحدُهُ الحبّ الحقيقي هو الفضاء الذي لا تَشُمّ (أو لاتكاد تشمُّ) رائحة المال فيه، وكلّ ما عداه فضاء مشبعٌ برائحة المال النفّاذة دوماً، والفاسدة في أحيان كثيرة، والمميتة في أحيان أخرى لا أحسبها نادرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram