نجم والي
2-2)
ولأنها الحرب، تسعى عائلة الشاعر كما بقية العوائل، تجرب حظها بالنجاة، "وتبتهل بدعاء الصباح: فاجعل اللهم صباحنا هذا نازلاً علينا بضياء الهدى، ومساءنا جنة من كيد العِدى ووقاية من مُرديات الهوى"(ص25). للنجاة من الحرب نحتاج إلى العديد من أرواح الله الحامية. والكثير من الحصانة، "إنها حصانة من شيء أخطر"(ص25)، إنها البداية، بدايتهم، و"أشد البدايات نهاية"(ص25)، وإلا، أية طفولة هذه؟ "في طريق المدرسة، يمر رتل الأميركان، صريخ، عصف، دوران"، الشاعر الطفل على الأرض، في فمه تراب، وفوق رأسه أحذية وكتب، صفير يفترس سمعه، وغبار يغشى بصره.
انفجار.
أنهض محتضناً أخي
فاقداً السمع
أمامي عربة تشتعل
وفي البعيد راية سوداء
هرولة الجنود بطيئة
وفوهات البنادق
تبرق دون صوت
اكملنا الطريق إلى المدرسة
وخلفنا صورة كبيرة لمعمم شاب
ملثم بالدم والدخان...
وجه حرب ثان إذن
تلفه الخوذ والعمائم واليشاميغ
هل اخترنا؟
هل سننجو؟
لا أدري
لكنها حرب تُشرق في دواخلنا (ص26-2)
في "ضد الأمل" يتشابك الوعي السياسي والأدبي مع الأحداث اللغوية والصوتية التي تُحرك النص - هنا، على سبيل المثال، التلاعب بالصورتين:
نبحث في المنشورات التي تُمطرها الهيلوكبتر
عن الحلم الأميركي
فلا نجد سوى السموم
واسلحة نقتل بها بعضنا
وصورة:
على شروق الوجوه وغروبها
نحتت الحرب الندوب
وسرنا بخواصر مثنية
احمالنا تاريخ وأساطير
وأسماؤنا لغة تنقرض (ص28-29)
كتبنا برماد الانفجارات أماني خجلى
ولبست أيامنا جلوداً نازفة (ص40)
على عكس شعر التكسب، شعر التملق الشائع عربياً، والأكثر شيوعاً في عراق الأمس وعلى أشده اليوم، نجد أنفسنا في شعرية "ضد الأمل" منغمسين في عالم الشوارع والمدارس وكمائن ألعاب الطفولة الضائعة بين الحلم الأميركي المسموم وصور المعممين الملثمة بالدم والدخان:
لعبنا
في طُلل الحرب
وتبادلنا أسلحة معطوبة
كتبنا برماد الانفجارات أماني خجلى
ولبسنا أيامنا جلوداً نازفة
شمعة للأحد الدامي
ياساً للخميس الأسود
وأكفاناً لبقية أيام الأسبوع (ص40)
شعرية مبين تتحدث هذه اللغة غير المنطوقة، لغة مشدودة بالبراغي وتجاعيد الأمهات اللواتي هجم عليهن الشيب مبكراً، بذكريات العيش المضنك والنوم المفقود، لغة الأرق وفقدان الحب، لغة مدبوغة تركت الحروب على جلدها الندوب، لغة قاسية، ملطخة بالدموع، تعيسة ومتألمة، جائعة للحلم، تئن من مكر المعممين أبناء آوى وإرهاب السلاح، لغة أصابع مقطوعة وحناجر لا تريد أن تستسلم لبحة صوت، لكنها مهما بدت قاسية ومتوحشة، إلا أنها لغة مُزيّتة بجمال صورها، برؤوس جُملها المرفوعة ، مُخاطبةً هذا العصر اللين، بفخرها أنها على قيد الحياة، أنها تعيش.
شعرية مبين ملموسة للغاية: كل ما حاضر فيها يحمل أسماء، ولكل منها مصير فريد. هناك مبين الذي يذهب إلى المدرسة وهو طفل، مبين الذي عمره عشر سنوات وهو يرى رتل الأميركان يعبر الشارع، طفل العشر سنوات وهو يرى جثث الحرب الأهلية في طريقه إلى المدرسة، مبين الشاب الذي يرى أحلامه الضائعة بين سموم الحلم الأميركي وفساد المعممين، مبين الذي يذهب يطالب بحريته في ساحة التحرير، ويرى كيف أن زملاء له هناك يُقتلون، فيما يصعد إنتهازيون احتالوا عليه إلى أعلى المناصب الحكومية، بعضهم يصبحون نواباً في البرلمان الذين اعتصموا به ذات يوم، وبعضهم الآخر يصبح مستشارا في مجلس الوزراء أو رئيس تحرير جريدة أو قناة تلفزيون تابعة للحكومة أو لأحد حيتان مافيات الفساد والقتل، وأخيراً نعثر على مبين الذي يجلس في كامن الألمانية، مدينة صغيرة، في وسط الطريق بين المدينة والقرية، يجلس وحيداً، يرتب أحلامه وأمانيه.
كل شيء حاضر بقوة في شعر مبين: الحرب، القتل، الدمار، الكفاح، ضجيج الطائرات، قعقعة الأسلجة، اللمعان الأحمر للحراب، للألم الذي لا ينتهي، لحياة التسول والبغاء. من المنفى البعيد، يتردد صدى همس الحنين إلى وطن بلا ندوب حرب، همس الحنين إلى بغداد بلا موت.
الأمل فيك أغنية منسية
والحياة فيك فعل لا يشبه الحياة
فجرك يا بغداد شمعة ذائبة
يليه نهار تكرهه العيون
الهواء فيه مثقل بنوايا السوء،
فاسد يومك وغدك مستحيل
سكانيك توابيت جوالة
تمشي مطمئنة إلى حتفها. (ص 61 وص62)
والآن؟ والآن وقد أصبح وحيداً، بدا الطريق أطول وأكثر ظلمة. وفكرة ضيوفه الافتراضيين وهم يسبقونه إلى البيت هاربين من ليل كامن ويتجولون حوله في مكان ما في الظلام، أضفت على وحدته، على الصمت دلالة مصيرية. إنه يشعر بتهديد خفي. يشعر بغربة تامة عن هؤلاء الذين يزورنه، عن المدينة التي وُلد فيها، المدينة التي كان يشعر تجاهها أحياناً بنوع من الود الجامد، لأنها كانت كل ما يعرفه وطناً. طالما ظن أنه سيتمكن يوماً ما من بناء جنة لنفسه هناك. والآن يبدأ يتساءل بدهشة كيف يُمكن لأي شخص أن يتجذر في هذه الصحراء الصخرية؛ بل يدرك تدريجياً ما أصبح عليه أولئك الذين ترسخت جذورهم والذين يصافحونه ببرود "ويدخلون البيت دون معنى للدخول فيجدون البيت خالياً من معنى البيوت"، كما جاء في مستهل القصيدة. فجأةً بدأ يرى الشاعر نفسه في ضوء جديد، متسائلاً:
من هم؟
ماذا يريدون؟
يجلسون إلى طاولة الكتابة (ص11)
يعبثون بسلوته، يخلوته، يقترحون الحنين بداية، فلا يقبل، يقترحون أغنية الطفولة، فلا يرضى، يهددونه، فلا يستجيب، يعاندونه، فيقول لهم:
لا تفرطوا بتزيين العتبة
حين أخاطبكم بصيغة الجمع
بأنني محاصر.
ولا أرى سوى أغلالي
أقسو عليكم بلسان مفرد
وإشرارات عديدة
حتى أتمكن من قول كل شيء
أناديكم بإسم واحد
وأنتظروا أن تخرجوا مني.
اعلموا
حين أخاطبكم بصيغة الجمع
أني لا أطيق وحدتي
وأنكم جميعاً أناي الخائفة (ص13)
ماذا يفعل الشاعر عندما يسوء أمر ما، عندما يصيبه مكروه، غير أن يلجأ إلى وحدته؟ غير أن يرغب فقط في البقاء وحيداً لفترة؟ غير أن يريد الاختباء حتى ينتهي؟ يلعق جراحه. ثم يعود، يعود ينشد:
كلُّ امرئٍ يرى، وحتى الأكثر جهلاً،
أنَّ طروادة هي الآن على حافة الهلاك.
أنشد يا هوميروس
إملأ الأحقاب موسيقى
واللانهاية جمالاً وسحراً
أنشد الإغريقي هوميروس في الإلياذة.
وها هو مبين خشاني ينشد على خطى أحد أسلافه من الشعراء الملعونين:
أيتها البلاد،
يا مسافة بين سيف ورقبة
اقنعي دمي الذي يرجف
أن الشمس أشرقت يوماً على وجهك
وكان بلا دموع
اقنعي قلبي المُخْتَلِب بسيرتك
أن ما دار ويدور
لن يكتب ليلتك الأخيرة وأن بساط الريح
سيحمل ثانية أغانيك وحكاياتك.
من ينتهي من قراءة "ضد الأمل" هذه القصيدة المتمردة الطويلة، سيسأل نفسه: كيف يُمكن، مع كل ما حدث ويحدث، مع كل هذا العمل الشاق الذي يمكن أن نطلقه على الحياة هناك، كيف يمكن لهم "أمراء الوهم" أولئك الحديث عن "العراق العظيم" وعن "الديموقراطية"، عن "الحرية" و"الإنجازات"؟ كيف يُمكن لهم أن يجرؤوا بالحديث عن "دولة القانون" و"الحكمة"، عن "جماعة الله" من "النجباء" و"أهل الحق"، عن أوهام "الفضيلة" و"سرايا السلام"؟ كيف يمكن لشعرائهم ومداحيهم "النثريين" بثّ الرطانة ذاتها، والحرب ما تزال لم تبرح مكانها، ما زالت مقيمة هناك، تتمختر على الشارع، متبرجة، زينتها السلاح؟ كم هي غريبة علينا صور تلك اللغة الناطقة في البلاد التي كان اسمها بلاد وادي الرافدين؟
«ضد الأمل" هذه القصيدة الملحمة، تُوسّع أسئلتنا حول كل ما جرى ويجري وما سيجري. ننجذب إليها ونُغير نظرتنا لأفكارنا عن "العراق العظيم"، عن تصوراتنا لأوهام "الديموقراطية" و"الحرية"، عن أوهام "العدل" و"السلام"، وكلمات جوفاء أخرى شبيهة، فقدت معانيها، مهما كانت "مُجنَّدة"، مهما لُيِّتْ، فهي ليست غير هياكل عظمية ... من دون لحم ودم.
عمل مبين خشاني يدور بالضبط حول هذه المسألة: أنه معني بالدفاع عن البعد الإنساني الفردي للغة في وجه المكر اللغوي للسلطة، وبقدر ما يثمن شعره قيمة الحياة، يثمن في القدر نفسه المقاومة المتأصلة في اللغة ذاتها ضد تجنيدها من قبل السلطات. اللغة تستعيد الحياة في شعره. وهذا وحده إنجاز عظيم.
"ضد الأمل".. للعراقي مبين خشاني..حين يعيد الشعر اللغة إلى الواقع

نشر في: 6 أكتوبر, 2025: 12:03 ص









