ستار كاووش
انتظرتُ بضعة أشهر كي يأتي موعد افتتاح معرض الفنان العظيم فيبراند دي خيست (1592 - 1665)، الذي يقام الآن في متحف فريسلاند شمال هولندا، حيث كانت التحضيرات تمضي على قدم وساق لإقامة أكبر معرض لهذا الفنان في الأراضي الواطئة، بعد أن أستعيرتْ الأعمال من متاحف عديدة حول العالم. وها أنا الآن بين صالات المتحف يعيدني الزمن الى عصر الباروك والفترة الذهبية للرسم الهولندي، وهي فرصة نادرة للوقوف أمام هذه اللوحات ذات الحجوم الواسعة التي مثلَّت أغلبها شخصيات بالحجم الطبيعي وبوضعيات وحركات وملابس تعكس نوع الحياة التي قضاها الهولنديون في القرن السابع عشر، وخصوصاً أولئك الذي عاشوا فى مقاطعة فريسلاند الشمالية.
وما يجعل هذا الفنان مهماً ومؤثراً، هو وقت ظهوره الذي سبق كل فناني هولندا الكبار في عصر الباروك، وقد درسَ الرسم في مدينة أوتريخت، ليغادر هولندا نحو فرنسا التي مكث فيها بعض الوقت ثم أكملَ طريقه نحو روما، قاطعاً الطريق مشياً وبواسطة الخيول والعربات، ثم عن طريق البحر، ليصل أخيراً الى روما، مدينة الفن التي قضى فيها سبع سنوات طَوَّرَ خلالها تقنياته في الرسم بعد أن شاهد عن قرب لوحات كارافاجيو الذي مات قبلها ببضعة سنوات وكان إسمه يملأ فضاء الفن كله، وأعماله تنال إعجاب الجميع. ليعود بعدها فيبراند الى هولندا وينال بدوره الكثير من النجاح ويحصل على الكثير من التكليفات لرسم بورتريهات مهمة أظهرَ فيها مستواه الفني الرفيع. والطريف أن هذا الفنان تربطه بالفنان العظيم ريمبرانت روابط عائلية، حيث أن زوجته هي ابنة عم ساسكيا زوجة ريمبرانت، وقد كان فيبراند حاضراً في حفلة زفاف ريمبرانت الذي جاء من مدينة لايدن ليتزوج ساسكيا في مدينة ليواردن، وهي ذات المدينة التي يُقام فيها هذا المعرض.
تجولتُ وسط مجموعة من بورتريهات فرسان القرن السادس عشر، واكملتُ طريقي نحو البورتريت الذي رسمه الفنان لنفسه وبجواره بورتريه رسمه لزوجته، وهاتين اللوحتين تقولان الكثير عن إمكانية وتقنية وموهبة هذا الفنان. عطفتُ بعدها نحو القاعة الرئيسية للمعرض لتواجهني مباشرة لوحتان رسم فيهما فيتزا فان كامينخا وزوجته صوفيا هيدفيخ، وهاتان اللوحتان هما المثال العظيم لفن هذا المبدع، وتعتبران قمة أعمال المعرض، بحجمهما الكبير والتقنية التي استخدمها دي خيست، حتى تبدو التفاصيل كأنها ثلاثية الأبعاد. يقف فيتزا ببدلته السوداء وياقته المزخرفة، وقد إلتَفَّتْ شرائط الدانتيل على ساقيه، فيما حذاءه الأنيق الذي تتقدمه قطعة دائرية من الدانتيل يعود بنا الى تلك الأناقة الكلاسيكية لعصر الباروك. يمسك بإحدى يديه عصا رفيعة حُفرت عليها زخارف وحزوز تعود لأندونيسيا التي كانت مستعمرة هولندية، فيما يثني يده الأخرى على خاصرته، وهذا ما منحهُ وقفة واثقة. الأرضية التي يقف عليها رُصِفَتْ ببلاط أبيض وأحمر خافت، وفي الخلفية برزَ وسط الظلمة كرسي أحمر اللون وضع عليه فيتزا سيفه وقبعته ورداءه الداكن. وعلى ذات الجدار بمحاذاة هذا البورتريت استقر بورتريت زوجته صوفيا التي تظهر ممسكة بمروحة يدوية من الريش، وقد ارتدت ملابس مزخرفة بطريقة فريدة زاد من جمالها القلائد الذهبية التي تتدلى على صدرها، والسلاسل النفيسة التي التمعت هنا وهناك فوق ثيابها الملكية، فيما يحاول كلبها الصغير التشبث بملابسها الفاخرة. وبرأيي الشخصي فأن هذا البورتريت هو أحد الأمثلة العظيمة للرسم الهولندي على مر العصور، وذلك لجمال تقنيته والتعبير الذي يعكسه واهتمام الفنان بنسيج الملابس المختلفة بكل تفاصيلها وتنوعها، ليتفوق هنا على كل فناني عصره. وكانت النتيجة عمل مكتمل من ناحية التكوين والرسم والاهتمام بالتفاصيل، انها لوحة تدعونا لرؤية ثراء القرن السابع عشر.
هكذا جعلني المعرض أعيش وسط شخصيات كأنها عادت إلى الحياة بعد أربعة قرون، حتى شعرت كأني أسمع أحاديث أولئك الناس البعيدين وأتابع تلويحاتهم وأنصت الى وقع أقدامهم وأشاركهم إبتهاجهم في المناسبات العائلية أو تجمعاتهم في أعياد المدينة. وفي وسط هذا المعرض فهمتُ كيف يمكن للَّوحات أن تكون وسيلة لإظهار الحالة الاجتماعية والتقاليد والغنى والحياة بشكلها العام في تلك الأيام، وكيف يمكن أن يؤثر الفن في المجتمع. هذا هو دور الفن العظيم الذي يعيد لنا قطعة من الأرض كانت مليئة بالحياة، لنرى ثقافة الشعوب وطبيعة الناس وطريقة عيشهم ونوع ثيابهم وعلاقاتهم الشخصية.
أكملتُ جولتي في المعرض الكبير، ثم اخترت أريكة وسط الصالة الرئيسية، وجلستُ هناك أتأمل التقنية التي قالت لي كل شيء، ونظرتُ إلى تعبيرات الوجوه التي حكت لي حكاية الناس الذين كانوا يعيشون في ذات المكان الذي أعيش فيه الآن. نظرتُ الى الألوان التي لم تكن مجرد صبغات، بل تفعل فعل السحر حين تكون بيد فنان موهوب وعظيم مثل فيبراند دي خيس الذي قضى كل حياته مع الرسم. فيبراند الذي مضى بعيداً وتركَ لنا كل هذه النفائس والكنوز التي لا تُقدر بثمن.










