TOP

جريدة المدى > عام > هل البشر مبرمجون ليحبوا الطغاة ؟

هل البشر مبرمجون ليحبوا الطغاة ؟

نشر في: 8 أكتوبر, 2025: 12:02 ص

جوناثان آر. غودمان*
ترجمة: لطفية الدليمي
أشارت دراسة حديثة بتكليفٍ من القناة الرابعة في التلفاز البريطاني BBC Channel 4 إلى أنّ أكثر من نصف البريطانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و27 عامًا يفضّلون أن تكون المملكة المتحدة ديكتاتورية استبدادية!
صدمت هذه النتائج الكثيرين ممّن يساورهم القلق إزاء تزايد خطر الإستبداد في جميع أنحاء العالم، بمن فيهم أنا. مع ذلك، وبعد التأمّل المعمّق في هذه النتيجة، لا أعتقد أنّ من المحتّم لنا أن نشعر بالمفاجأة ثقيلة الوقع علينا. إنّ طريقة تطوّرنا تجعلُنا نميل إلى وضع الثقة فيمَنْ لا يستحقّونها غالبًا بمعنى ما؛ فهي تُبرمِجُنا على دعم من هم أكثرُنا حسًّا ميكيافيليًا وتعطّشًا للسلطة، ودفعهُمْ إلى مراتبها العليا. تبدو هذه معضلة مستعصية؛ لكنّ ما نفعله في مواجهة هذه المعرفة هو الأكثر أهمّية.
إنّها خصيصةٌ في الطبيعة البشرية أن نثق في الرجال الأقوياء؛ لكنّنا في الوقت ذاته طوّرْنا الأدوات اللازمة لمقاومة هؤلاء الاشخاص والوقوف بوجههم عندما يستلزم الأمر. هكذا يبدو الأمر لو نظرنا إليه من وجهة تطوّرنا البيولوجي والثقافي.
تُظهر الأبحاث الحديثة في علم الأنثروبولوجيا وعلم الرئيسيات Primatology كيف تطوّر هذا الترابط. عاش أسلافنا القدماء، مثل معظم الرئيسيّات اليوم، في مجموعات يهيمنُ عليها ذكور عنيفون وعدوانيّون. وبرغم ذلك، وعلى مدار تطوّرنا البيولوجي والثقافي، وعلى عكس أبناء عمومتنا من الرئيسيّات ( القرود – المترجمة )، تعلّمْنا العمل معًا لمواجهة هؤلاء الذكور المتنمّرين العنيفين، وتنظيم صفوفنا للحد من نفوذهم. يُنظَرُ إلى هذا الفعل أحيانًا على أنه عملية تدجين ذاتي Self-Domestication، وتلك فرضية تعود جذورُها إلى كتابات تشارلز داروين. اليوم ثمة أدلةٌ قويةٌ تدعم هذا الرأي: فنحنُ لا نتعاونُ فحسب على نطاق أوسع بالمقارنة مع أي نوع بيولوجي معروف؛ بل حتى وجوهُنا - وهي أكثر تسطّحًا وتفتقر إلى نتوءات الحاجبين البارزة المرتبطة بإرتفاع مستويات هرمون التستوستيرون الذكوري المقترن بالسلوك العنيف - تشيرُ إلى ميلٍ أقلّ نحو العدوانية مقارنةً بأقرب أقاربنا الجينيين، مثل الشمبانزي.
هناك مجموعةٌ أخرى من السمات التي يجادل الباحثون اليوم بأنّها تطورت مع اتّساع نطاق تعاوننا وتشاركنا البشري وخفوت موارد العنف فينا بالمقارنة مع أسلافنا. تُعرَفُ هذه السمات باسم تحيزات التعلم Learning Biases. تُظهِرُ الأبحاث في كلّ من علم الأنثروبولوجيا وعلم النفس بشكل قاطع أن البشر يميلون إلى تصديق ما يعتقده الآخرون من حولهم وبخاصّة أولئك الذين يحسبونهم ناجحين. تُعرَفُ هذه السمات باسم تحيّزات المماثلة Conformity والهيبة Prestige على التوالي، ويمكن أن يكون لها تأثيراتٌ قويةٌ على كيفية إدراكنا للمعلومات. أثبت عالم النفس سولومون آش Solomon Asch ذلك في بعض التجارب الكلاسيكية حول الحُكْم البصري: عندما طُلِبَ من المشاركين في تجربة إختبارية مقارنةُ خطوط على ورقة اتّفق المشاركون على أنّ الخط القصير مساوٍ في الطول للخط الأطول بمجرّد سماعهم لأشخاص آخرين في المجموعة يصرّحون بذلك.
ربّما تطوّرت هذه التحيّزات لمساعدتنا على تنسيق أنشطتنا بشكل أكثر فعالية، كذلك النوع من التنسيق الذي نحتاج إليه عند صيد الطرائد الكبيرة، على سبيل المثال. قد يُفسّرُ هذا سبب مَيْل المراهقين، في كل من المجتمعات ما قبل الصناعية والمجتمعات الحديثة، إلى محاكاة سلوك الأشخاص الأكثر مقدرة ومطاولة في الفعاليات التي تتطلبُ بنية جسدية متينة. لن يختلف الأمرُ فيما لو حصل التعبير عن هذه المقدرة في ميدان الصيد أو أيّ شكل من أشكال الرياضة البدنيّة.
لكن مع ذلك فإنّ هذه التحيّزات نفسها، مقترنةً بطبيعتنا الواثقة، هي التي تجعلُنا عُرْضَةً لإستغلال القادة المستبدّين. أعتقدُ أنّ المجتمعات القديمة، وبعد أن قضت على العدوان العلني الصارخ في معظمه، انتهت، عن غير قصد، إلى تحسين فرص الأفراد الذين كانوا بارعين في التلاعب بالآخرين بطرق أكثر دهاءً. يُطلِقُ البعضُ على هذه الخصيصة اسم العدوان الإستباقي Proactive Aggression، بينما يُطلقُ عليها آخرون إسم الذكاء الميكافيلي Machiavellian Intelligence، أو القدرة والميل إلى الهيمنة ليس بالعنف بل من خلال المناورات الإجتماعية والخداع.
لقد فضّلْنا، ولم نزلْ نفضّلُ، أولئك الذين يتظاهرون بالتعاون حتى يبلغوا طورًا لا يعودوا فيه بحاجة إلى المزيد من التظاهر. هؤلاء يمكنُ لنا أن نسمّيهم «منافسينا اللامرئيين Our Invisible Rivals ".
يُجيد الميكافيليون توظيف تحيّزاتنا هذه بالضدّ منّا على وجه التخصيص. يجيد مؤثّرون مثل أندرو تيت Andrew Tate - الذي ظهر كمصدر شائع للمعلومات في إستطلاع القناة الرابعة المشار إليه أعلاه - إستخدام نجاحهم وشعبيتهم لترويج أفكارهم لمتابعيهم، متجنّبين بحرص ومكْر أيّ وجهات نظر متوازنة. للأسف فإنّ الشباب، والقابلين للتأثر، وربما الأكثر تعاسةً من الناس، هم الفئات الأكثر ميلاً للثقة بأمثال تيت ونظرائه.
يعمل رجال السلطة مثل دونالد ترامب بطريقة مماثلة. إنّهم يستخدمون الخداع والتلاعب لخلق ثقة مطلقة بقدراتهم، ثم يعمدون لإستغلال هذه الثقة للوصول إلى مناصب السلطة، وغالبًا ما يخونون مَنْ دعموا مساعيهم، كما فعل ترامب في الكثير من الأحيان.
لا يمتلك القادة الإستبداديون اليوم هذه الأدوات القديمة فحسب؛ بل يمتلكون إلى جانبها أيضًا شبكات واسعة لنشر أجنداتهم (برامج عملهم) القائمة على المعلومات. خيرُ مثالٍ على ذلك هجماتُ ترامب الأخيرة على عالمَيْ العلم والتعليم، التي روّج لها عبر منصتّه الخاصّة للتواصل الإجتماعي، المسمّاة «Truth Social"، وعزّزها مساعده إيلون ماسك عبر منصّته X. ورغم حداثة وسائل النشر فإنّ هذه الأفعال ليست سوى أحدث صيحات التحريض في تاريخ طويل من حروب الثقة والمعتقدات. عندما تولّى البلاشفة زمام السلطة في روسيا، على سبيل المثال، اعتبروا بعض مجالات الدراسة العلمية «برجوازية» واستبدلوها بمجالات مقبولة آيديولوجيّا في فلسفتهم الشيوعية.
ومع ذلك، يمكننا أن نتفاءل بأن المشاكل الخالدة قابلة لأن تكون لها حلولا خالدة هي الأخرى. وجد أسلافُنا طرقًا لموازنة أفضل عناصر الطبيعة البشرية مع أسوأها، وبذلك واجهوا تأثير تحيّزاتنا المتأصلة والتي قد تسبّبُ لنا ضررًا جسيمًا. الخطوة الأولى نحو ذلك هي إدراكُ ميلنا إلى إتّباع الآخرين دون تفكير، وتعزيز الثقة بالنجاح الفردي من غير سطوة الحكّام المستبدّين، ومشاركة هذه الرؤية وتدعيمها على أوسع النطاقات، ودعْم قدرة مواطنينا على التفكير النقدي والأخلاقي القادر على كبح جماح السلوك «القطيعي».
عندما نرى الإستبداديين يستهدفون المؤسّسات المنتجة للمعرفة - سواءٌ كانت جامعات مثل هارفارد أو هيئات مثل المتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأمريكية الأفريقية التي تَعلّمنا بواسطتها الكثير عن أخطائنا الماضية – فإنّنا يجب أن نتحرك لحمايتها بأصواتنا ومواردنا المالية. عندما نرى القوة الغاشمة ممزوجةً بالجهل يمكنُنا دعمُ المعرفة والاحتجاج السلمي والتعليم.
أخيرًا، عندما تنتهي عهود الإرهاب - وهذا ما يحدث دائمًا في النهاية - من الضروري أن نتعلّم ونستوعب الدروس الكثيرة والجديدة. بهذه الطريقة وحدها نعملُ على تحصين أنفسنا من جديد ضدّ ميلنا الطبيعي إلى الثقة في مَنْ هُمْ غير مستحقّين للثقة، ونحملُ في الوقت ذاته هذه الحكمة إلى المستقبل حتى نتمكّن، وبشكل أفضل ممّا سبق حتى اليوم، من إحباط جهود المستبدّين الذين يسعون إلى إغلاق عقولنا.
*جوناثان آر. غودمان Jonathan R. Goodman: كاتب وباحث يعمل في الميدان البحثي الذي يتقاطع فيه علم التطور البشري والصحة العامة والأخلاق. مؤلّف كتاب «المنافسون اللا المرئيّون: كيف تطورنا للتنافس في عالم تعاوني Invisible Rivals: how we evolved to compete in a cooperative world" . الكتاب من منشورات جامعة ييل الأمريكية. (المترجمة)
- الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة (غارديان) البريطانية بتأريخ 18 أيار 2025

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram