TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > متلازمة النفاق والنمط الحربائي

متلازمة النفاق والنمط الحربائي

نشر في: 9 أكتوبر, 2025: 12:01 ص

يوسف حمه صالح مصطفى *

هناك تداخل وتشابك في الكثير من المظاهر المعرفية والسلوكية والوجدانية بشكل لا يقوى الفرد العادي على التمييز بينها سوى الضالعين في علم النفس، كالمحرك والدافع والباعث وكذلك الفرح والسرور والغبطة… الخ ، وعندما نتناول الشخصية الحربائية نستذكر خصائص من قبيل ، الوصولية والانتهازية والمداهنة والنفاق والتلوّن والنفعية والمكيافيلية ..و قد تمتد المعاني فيها إلى الخيانة والعدوانية والتذبذب والجحود ونكران الجميل.. الخ .
تشير معطيات علم النفس الإيجابي إلى أن ، أروع الناس ، هم الأصلاء المتناغمون مع ذواتهم ومع قيمهم الإنسانية النبيلة مهما تبدلت بهم السُبل والمواقف والاشخاص ، وأردأهم ، هم ناكرو الجميل والمنافقون والحرباويون المتلونون والذين لايستقر بهم الحال ويسلكون بحسب ما تقتضيه المصلحة.
فالاستقرار العاطفي والتماسك الخُلقي الذي تنجم عنهما خصال جميلة تنعكس إيجاباً على الذات والآخرين ، كالطيبة والتعاون والإخلاص والعرفان بالجميل ، التي تُعَدّ قِمّة الرُقي في الخُلق الإنساني.
و عِبرَ هذهِ الخصال ربما يستحصل الفرد على رصيد إجتماعي واسع من المحبين والمخلصين، الذين يصبحون درعاً لهُ في السرّاء والضرّاء ، الأمر الذي يقتضي غضّ النظر عن حفنة من الجاحدين وناكريّ الجميل رغم ما يسببونه من أذىً نفسي ، والطيب بوعي لا يغير مسارهُ الإنساني لأن خبيثاً من هنا وهناك خرج عن جادة الصواب ، لكن ما يؤلم نفسياً هو هدر الطاقة والزمن مع من لا يستحقون كل هذا العناء ،و نبرر هذا الهدر أحياناً كدرس نتعظ منه، إلّا أنّ هذا النمط الشاذ لاينفي توجهات علم النفس وإنما يعززها ، فهناك مفهوم مستوى الدلالة ، ولتكن نسبة الخطأ 01% أو 05% في التعامل الايجابي مع مالايستحقون ، وهي نسبة تعطي دعماً إحصائياً لتوقعاتنا عن سلوك البشر بصورة عامة، والشواذ كما يقال تثبت صحة القاعدة .
في مجتمعٍ مليء بالمتناقضات بلاشك يواجه الإيجابي النبيل بعض الأعداء أو الخصوم، وقد يؤدّون خدمة في إبراز التمايز المُضيء في لوحة النُبُل لذلك الشخص، والنبيل كما يرى "مارتن سيلجمان" يتمتع بالفضائل الاخلاقية من قبيل: الإنسانية (Humanity) والعدالة (Justice) والاعتدال (Temperance ) والسمو الروحي أو التعالي (Transcendence)، أي أنهُ متصالح مع نفسه ِو لديه تقدير عالي للذات ويتمتع بالتعاطف والرحمة والشعور بمعاناة الآخرين والإيثار والنضج الإنفعالي والمعرفي .
بحكم تجربتي المتواضعة ودراساتي في مجال علم النفس ، لا أفضّل تسمية الخبيث أو المُسيء أو الجاحد وحتى المجرم بالمريض نفسيا، ولا اريد أن أضعهُ في خانة من الاضطرابات كما تستدعي تصنيفات DSMو WHO للأمراض أو الاضطرابات النفسية أو الشخصية ، فالمرض مهما كان جسدياً أو نفسياً ليس عيباً أو مثلبة أخلاقية ، ماعدا ما تشير اليه أعراض السايكوباثية التي ينجم عنها إيذاء الناس ، وهي حالات تتطلب العلاج والخدمات في المراكز الصحية ، لكن الأناس الأصحاء الذين يعيشون بين ظهرانينا، وينالون ما يناله الآخرون من المرتبة والمكانة والوظيفة والشهادة ، ومن ثم يعبثون ويسيئون بشكل مبرمج ! هؤلاء أسميهم بالمشوّهين ، فالمُشوّه يؤدي أدواراً متحركة كما تستدعي المصلحه الشخصية ويتلون على وفق هذا بحسب البيئة التي يتواجد فيها، فاقداً ثباتهُ الاخلاقي الذي يمُتّ بالخصال الإنسانية الجميلة من صلة ، وهو شخص يتلاعب بحسب كلمة المرور " الباسوورد" التي اكتسبها من طبيعة الحرباء . وربما نتساءل، اليست هذهِ الخاصية ذكاءٌ فرضتهُ مقتضيات العصر ، عصر التفاهة والفوضى والمادية وباختصار، عصر المصالح، وبالتالي من الغباء أن تستمر في طيبتك وإيجابيتك ومبدأيتك ..!؟
فالتكيّف الإيجابي يُسهّل على الفرد العيش بأمان مع الآخرين ، لكن "المسايرة المتطرفة" والتنقل بين جهات ومواقف متعارضة تجعل من الفرد مشوّه الملامح فاعلاً في تبديل الأدوار وإعطاء أكثر من صورة عن الذات . هنا يتحول تبديل الأدوار إلى استراتيجية بقاء تُدار بالخوف (من الرفض/العقاب) أو بالمصلحة البحتة، فينتج عنها أضرار نفسية وعلاقاتية وأخلاقية. ومن هذهِ الأضرار :
- غموض الهوية وتشتت الذات:
ارتفاع في مستوى مراقبة الذات مع انخفاض في وضوح مفهوم الذات مما يخلق ذاتًا ظرفية (Working Self) متقلبة؛ الأمر الذي يضعف الثبات القيمي والقرار الأخلاقي .
- فتور العاطفة : فالمُتَلوِّن كذّاب ويفتقد إلى ملكة التعبير الحقيقي عن المشاعر، أنه يفتعل المشاعر التي تُمليها مصلحتهُ، فهو حين يحب يتزلف وحينما يكره يكذب او يختلق الأكاذيب للإيقاع بالمقابل .
- التناشز المعرفي أو الوجداني المزمن (Emotional Dissonance):
الفرق بين ما يُشعَر به وما يُعرَض للآخرين (Surface Acting) ، فهو أو هي ، يستهلك طاقة معرفية ويقود للاحتراق والانفصال عن المشاعر.
- تقدير ذات مشروط أو متوقف على القبول (Contingent Self-Esteem):
تدني في تقدير الذات وتذبذبهُ بحسب ردود فعل الآخرين، فتزداد الحساسية للرفض وتظهر سلوكيات إرضاء قهرية.
- إدارة الانطباع القهري (Compulsive Impression Management):
مراقبة دقيقة للمتلقي تُنتج ردودًا محسوبة لا أصيلة، وتزيد الميل للكذب الأبيض والتلوّن الأخلاقي.
- قابلية للتلاعب والاستغلال والإيذاء :
فهناك نماذج شائعة للنمط الحربائي مثل :
• الحرباء الإرضائية: تجنّب الصدام بأي ثمن، تسليم الحدود، وتحمّل أعباء الآخرين.
• الحرباء النفعية:
مزيج من التلوّن مع نفعيةو مكيافيلية؛ وتوظيف الأقنعة لانتزاع المكاسب.
* الحرباء المتربصة المؤذية :
وضع خُطط للإيقاع بالآخرين ولو كان من المقربين جداً أو من أصحاب الفضل عليه ، مع خلق روايات كيدية للتقليل من شأن المقابل ، والبحث عن اخبار ووقائع لتوظيفها في استهداف شخصٍ ما للنيل منهُ.
فالمشوّه الحربائي أو المتلون يفوز ببعض المكاسب الوقتية إلّا أنه وبمرور الزمن يصبح مفضوحاً معروفاً ومذموماً من قبل الآخرين، وناهيكَ عمّا يسبّبهُ من أذى وإزعاج لٍمَن يقع في شركهِ إلّا انه في ذات الوقت يلحق بنفسهِ الكثير من الضرر والأذى، منهُ :
• تآكل الأصالة والانسجام الداخلي:
شعور بالتصنّع، ثم نفور من الذات أو خدر وجداني وهشاشة الضمير .
• إجهاد معرفي والتردد في الاختيار والقرارات :
إقحام الذهن وحملهِ بالعديد من الخطط والحيل والسعي الدائم لضبط الأقنعة، مما يضعف البصيرة والقدرة على إصدار القرار وحسم الأمور .
• أعراض نفسية:
يعاني الحربائي من الكثير من الأعراض الجانبية بسبب الحقد المتجمع والخبث المضمَر من جرّاء التلاعب والتذبذب ومنها :
قلق إجتماعي ومزاج متعكر وأرق وإضطرابات في النوم وشكاوى نفسجسمية وظيفية Somatoform؛ وأحيانًا اندفاعيات لملء الفراغ الوجودي عبر : (نزعة مفرطة في التبضع والصرف والإنفاق والإقبال الزائد على الطعام .)
٠ الاستعراضية وتوكيد الذات الزائف : والمبالغة في مدح الذات وإبراز المحاسن كألية دفاعية في تغطية وضاعة الذات والشعور بالدونية .
• التواصل السلبي مع الآخرين مع إضطرابات مخفية في الشخصية:
اخبث الناس ليسوا من يعادونك جهارا بل من يجيدون تمثيل الود والوداعة معك الى حين ،و عندما تنتفي الحاجة اليك تبدأ أدوات الخُبث والايذاء والانتقام لذنب أو خطأ إفتراضي لم تقترفهُ بالشروع .
فالمتلون الحربائي والشخصية المشوّهة لا تظهر عليها أعراض نفسية لأول وهلة وستظهر هذهِ الاعراض في ضمن تصرفات ومواقف غير متناغمة ومنها :
كالاعتمادية والسايكوباثية والنرجسية والحدّية وإضطراب الهوية ، أو سِمات التحايل والمكيافيلية لأغراض نفعية.
و ينجم عن سلوكيات الانتهازي والمتلون الحربائي الكثير من التداعيات الاجتماعية ومنها :
• إنخفاض في ثقة الآخرين بهِ ، لاسيما عندما يُستشَف منهُ عدم الاتساق في المواقف والاقوال والادعاءات فيظهر نوع من التحفظ في التقرب منه .
• التوجس وعدم الأمان والضبابية في التوقعات نحوهُ :
فالحربائي الانتهازي تراهُ تارةً لطيفاً
و ديعاً كريماً وتارة أخرى خبيثاً عدوانياً وإنفجارياً غاضباً .
• تشوّه الأخلاقي الاجتماعي : من جرّاء التبدل في المواقف وإستغلال الناس وإرضائهم ومن ثم الإنقضاض عليهم وتشويه سمعتهم بالأكاذيب والتلفيقات، وإنتهاج مبدأ ازدواجية المعايير لا بل معايير متعددة .
• سوء التواصل المزمن:
الفضول وتلميحات أو رسائل مبطنة، ومجاملة مفرطة في اللقاءات الأولى ، واستخدام سياسة الأقنعة وتجنب المواجهة الصريحة.
لماذا يستمر النمط المؤذي من الشخصية بيننا ؟
لذلك أسباب متعددة ومنها :
• تعزيزات قصيرة المدى: ينال الإنتهازي المؤذي مكاسب فورية (قبول، مصلحة) والتزلف والتقرّب من أصحاب النفوذ .
• التربية الأسرية المتزمتة: حيث يعاني من تأريخ طفولي من الرفض والتقليل من الشأن والتخويف والعقاب عند الإفصاح عن المشاعر والتعبير الأصيل، وتعزيز روح الأنانية ومشاعر الحسد والغيرة .
• تبريرات ذاتية:
على لسان حال الحربائي المتلون وكأنهُ يقول :
" أستطيع أن أنال مبتغاي عبر تحقيق ما يريده الآخرون أو ما يتطلبهُ الموقف وأنا أنجو من المشكلات عندما أخدع الأخرين وأمثّل دور الضحية ، وقد نلتُ الكثير عندما أجدتُ التمثيل ، فإذن أنا أذكى من الآخرين .»
• فالحربائية المؤذية ليست مرونة؛ هي انسلاخٌ تدريجي عن الذات أو تلاعبٌ بالآخرين.
• علامتها الفارقة: تقلّب القيم لا مجرد تبدّل الأسلوب.
• علاجها: هوية واضحة أو توضيح ملامح راسخة لهوية حقيقية + ثم وضع حدود واضحة للسلوك والتعامل + تنظيم وجداني + شجاعة في تحمّل خيبة الذات والآخر.
* أكاديمي مختص في علم النفس

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram