TOP

جريدة المدى > سينما > فيلم «معركة تِلْوَ أخرى».. الحرية هي أن لا تخاف

فيلم «معركة تِلْوَ أخرى».. الحرية هي أن لا تخاف

نشر في: 9 أكتوبر, 2025: 12:03 ص

قحطان المعموري
يعود المخرج الأميركي بول توماس أندرسن بفيلمه الجديد «معركة تلو أخرى»، ليقدّم عملاً يختزل رؤيته العميقة للعصر الأميركي المعاصر، راسماً رؤيته النقدية لجيله ولواقع الثورة في أمريكا، وينعكس فيه قلق جيله وتردده في مواجهة عالم يتبدّل بسرعة. الفيلم الذي يضم نخبة من النجوم، وعلى رأسهم ليوناردو دي كابريو، حظي بأفضل استقبال جماهيري في مسيرة أندرسن، وحقق أعلى إيرادات افتتاحية في تاريخه. غير أنّ هذا النجاح لا يعود إلى البريق السينمائي وحده، بل إلى تماسه الصادق مع نبض أميركا اليوم، وإلى طرحه الجريء لأسئلة حول الثورة، والخوف، والحدود الأخلاقية للتغيير.
يُعدّ بول توماس أندرسن أحد أبناء جيل المخرجين الثائرين في تسعينيات القرن الماضي، الذين تحدّوا مؤسسات التعليم والسينما التجارية، وأسّسوا لأنفسهم مسارًا بديلًا قائمًا على التجريب والحرية. ترك أندرسن الدراسة في معهد نيويورك السينمائي بعد يومين فقط، مؤمنًا بأن الإبداع لا يُدرّس في القاعات. ومنذ ذلك الحين، وهو يصنع أفلامًا تُمزج فيها الثورة الفنية بالتشكيك الدائم في جدوى التغيير. ينتمي أندرسن إلى جيل يضمّ أسماء مثل كوينتن تارانتينو وريتشارد لينكلايتر وروبرت رودريغيز، وهو جيل حاول أن يُعرّي تناقضات أميركا: حلمها المزيّف، وواقعها الملوّث بالمال واللامساواة، ومجتمعها الذي يواصل الدوران في دوامة الاستهلاك.
الثورة واللاخوف
منذ المشهد الأول، يدرك المشاهد أن الفيلم لا يحتفي بالعنف السياسي كما قد يتوهم البعض، بل يعرضه كخيار مؤقت، مأزوم، لا يقود إلا إلى دائرة جديدة من الخسارات. في أحد المشاهد المحورية، يقول سينسي سيرخيو، الذي يؤدي دوره ( بنيسيو دل تورو) ، لتلميذه بوب (دي كابريو) : « أتدري ما الحريّة ؟ هي ان لا تخاف « .
جملة تختصر فلسفة الفيلم بأكمله؛ فالثورة الحقيقية لا تتحقق بإلغاء الخوف مؤقتًا، بل بتجاوزه الوجداني والإنساني. إلا أن تجاوز الخوف في أميركا المعاصرة يبدو مهمة شبه مستحيلة، في مجتمع تتسع فيه الفوارق الطبقية والعرقية على نحو لم يعد لجيل أندرسن طاقة على مقاومته.
الواقع الأميركي كما هو
في أحد المشاهد الرمزية في أول فلم روائي طويل لأندرسن « لعبة الثمانية الصعبة «، يروي أحد الشخصيات حكاية رجل أصيب بأزمة قلبية على طاولة القمار، بينما يواصل اللاعبون المراهنة من حوله غير مبالين بمصيره. تلك الصورة المروّعة تمثل أميركا في نظر أندرسن: بلد يستمر في اللعب رغم سقوط أحد أبنائه أرضًا. جيل بعد جيل، لم يتبدّل المشهد كثيرًا. جيل الألفية انتقل من الكاميرا إلى مواقع التواصل، لكن الصوت بقي محاصرًا، والثورات الصغيرة تحوّلت إلى شعارات تُستهلك سريعًا قبل أن تُبتلع في السوق الكبرى.
حدود الثورة الحديثة
يتأمل أندرسن في فيلمه الجديد مأزق جيله، ويُسقطه على شخصية بوب الذي يبدو متعبًا من المعارك، فاقدًا للحماسة، لا يعرف أين يوجّه غضبه أو إيمانه. حين يقول في منتصف الفيلم: " لم أعد أغضب... لا شيء يثير غضبي بعد الآن» .أنه لا يعبّر عن استسلامه فحسب، بل عن شعور شامل بالعجز الثوري الذي يصيب كثيرين من أبناء جيله؛ إذ يتحول الوعي بالظلم إلى نوع من الخدر، وإلى قناعة بأن التغيير الحقيقي بات مستحيلًا. هكذا يصبح بوب صورة لأندرسن نفسه، ولجيل كامل من الحالمين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين أمام تسارع العالم وتحوّل الثورة إلى سلعة.
المرأة في طليعة التغيير
على النقيض من بوب، تأتي شخصية بيرفيديا لتمنح الفيلم طاقة مقاومة جديدة. تجسدها الممثلة تايلور هول كإمرأة سوداء شجاعة، تقود العمل الثوري المسلّح في وجه منظومة تستغل الفقراء والمهمشين. وحين تقتل عن غير قصد حارسًا أسود أثناء محاولة سرقة بنك، يتهاوى يقينها، وتبدأ بمراجعة كل شيء. يقدّم أندرسن بيرفيديا بوصفها نموذجًا للمرأة الأميركية السوداء التي طالما كانت في مقدمة الحركات الاجتماعية الحقيقية، إذ يرى أن من يُحرَم من الحقوق هو من يملك الدافع الأكبر للمطالبة بها. هذه القراءة تنسجم مع وعي المخرج بزواجِه من الممثلة مايا رودولف، التي ألهمته رؤية أعمق لدور النساء السود في التاريخ الأميركي.
بين بوب وبيرفيديا
ينسحب بوب من المعركة بعد ولادة طفلتهما ويلا، راغبًا في حياة هادئة، بينما تواصل بيرفيديا القتال. ترفض الاستسلام، لا لأنّها لا تخاف، بل لأنّها تدرك أن الأمومة لا تعني التنازل عن الذات. الفيلم يرسم مأساة بيرفيديا بين الرغبة في بناء مستقبل آمن لابنتها، والإحساس بالذنب من ثمن الثورة التي دفعت جسدها وعمرها لأجلها. إنها شخصية مركّبة، متناقضة، تعيش ما يسميه أندرسن «المنطقة الرمادية للإنسان»، حيث لا توجد بطولة خالصة ولا خيانة كاملة، بل نضال دائم مع الذات والآخر.
ثورة الجيل الجديد
في المقابل، تمثّل (ويلا ) الجيل القادم من الثوار، الذي سيحمل الشعلة بطريقة مختلفة. حين تسلك طريقها الخاص في مواجهة خصم والدتها القديم (لوكجو)، تدرك أن العنف لم يعد مجديًا، وأن الحرية لا تُورّث، بل تُكتشف من جديد. الفيلم ينتهي بمشهد مفتوح، لا خلاص فيه ولا انتصار، بل إيمان خافت بأن جيلًا جديدًا سيجد طريقه الخاص إلى التغيير، بعيدًا عن رماد الماضي.
العدو الحقيقي
ما يميّزفلم «معركة تلو أخرى» هو أنّه لا يكتفي بالإشارة إلى الشر كمفهوم غامض، بل يحدده بوضوح:
العدوّ هو السلطة البيضاء الثرية التي تتحكم في مؤسسات الدولة والاقتصاد، وتتغذى على عمل المهاجرين والمهمّشين، والذي يسمّيهم أندرسن في الفيلم «نادي مغامري عيد الميلاد»، وهي تسمية رمزية لأصحاب الامتياز الذين يختبئون وراء شعارات الوطنية. غير أن المخرج لا يمنحنا نهاية مريحة، إذ يبقي هؤلاء في مواقعهم، كأنّه يقول إنّ الشر البنيوي لا يُهزم بفيلم أو ثورة واحدة.
رفض الأوهام الهوليوودية
في زمنٍ تميل فيه هوليوود إلى التخفيف من لهجة السياسة في أفلامها خوفًا من الخسارة التجارية، يرفض أندرسن هذا المسار.فهو لا يصنع بطلاً خارقًا أبيض ينقذ العالم، ولا يصوّر شخصيات سوداء بوصفها رموزًا سحرية للخلاص، بل يقدّم الجميع كبشر يخطئون ويصيبون، يتعثّرون في الطريق نفسه نحو العدالة. إن رسالة الفيلم هي أن الثورة ليست حدثًا مهيبًا، بل فعل إنساني متكرر، مليء بالارتباك والشك والخوف، وأن استمرارها في حد ذاته هو الأمل.
نهاية بلا خلاص
في المشهد الأخير، يقرأ بوب رسالة (بيرفيديا) إلى ابنتهما. رسالة أشبه بوصية تقول فيها إن الثورة ليست سلاحًا، بل هي بحث دائم عن معنى الحرية. لا يقدّم أندرسن إجابة نهائية ولا حلولًا جاهزة، بل يسلّم الراية إلى الجيل الجديد كي يكتشف طريقه بنفسه. وهنا تكمن فرادة الفيلم: فهو لا يقدّم بطلًا منتصرًا، بل إنسانًا يواصل المعركة، معركة تلو أخرى، في سبيل البقاء الإنساني والكرامة.
معركة تلو أخرى ، فيلم أمريكي بدأ عرضه في أمريكا وأوربا في الأسبوع الأخير من أيلول وهو من تاليف وإخراج بول توماس أندرسون ، وبطولة ليونارد دي كابريو ، شون بن ، بينشيوديل تورو ، ريجينيا هول.الفلم مستوحى من رواية ( فينلاند) للكاتب توماس بينشون.حقق الفلم في إسبوعه عرضه الاول عالمياً ايرادات تجاوزت 70 مليون دولار.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

محمود هدايت: في السينما الشاعرية لا توجد صور قطّ.. بل أزمنة

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

رحلة إلى عوالم البحر الأحمر السينمائي

مقالات ذات صلة

سينما

"الست" عن حياة أم كلثوم محور حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضه

متابعة: المدى لم يلبث فريق عمل الفيلم المصري "الست" أنْ عرَض الإعلان الترويجي للفيلم الذي يجسّد حياة "كوكب الشرق"، أم كلثوم، التي تقوم بدور شخصيتها الفنانة المصرية منى زكي، حتى ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram