إسماعيل نوري الربيعي
في كل موسم انتخابي عراقي، يبدو المشهد وكأنه إعادة بثّ لحلقة قديمة من مسلسل سياسي طويل الأمد، لم يَعُد المشاهد ينتظر منه إلا المفارقات الساخرة. في العراق، لا تبدأ الانتخابات بإعلان المفوضية العليا المستقلة، بل ببدء عرض الدعاية الكبرى التي تتقاطع فيها الفلسفة بالتهريج، والجدل الديمقراطي بالشعارات الوجودية من طراز: "العراق أولاً"، وكأن العراق كان في المرتبة الأخيرة على لائحة أولويات المرشحين طوال العقدين الماضيين. لكن ما يهمنا هنا ليس المسرح بحد ذاته، بل الكاميرا التي تصوره؛ فلسفة الإعلام والتواصل، ورفيقها التحليلي؛ تحليل الخطاب الإعلامي، وهما أداتان فلسفيتان قادرتان على تحويل هذا الكرنفال الانتخابي إلى مادة للدرس والضحك معاً.
الإعلام العراقي كفيلسوف يبيع الأحلام بالتقسيط
فلسفة الإعلام والتواصل، كما يعرفها الأكاديميون، تهتم بدراسة طبيعة الإعلام، ودوره في تشكيل الوعي الجمعي، والعلاقة بين السلطة والمعرفة. ولكن في الحالة العراقية، هذه الفلسفة لا تحتاج إلى قاعة محاضرات، بل إلى "مقهى سياسي" حيث يجلس المواطن بين نرجيلة وقنينة مياه معبأة، يتابع شاشات تتبارى في التنويم الخطابي. الإعلام هنا لا يقدّم الحقيقة، بل يخلقها. لا يعكس الواقع، بل يخترعه على الهواء مباشرة. فكل قناة تلفزيونية عراقية تمثل قبيلة إعلامية لها شيوخها ومفسروها، وسدنتها الذين يحرسون الحقيقة من الانزلاق نحو الموضوعية. من منظور فلسفة الإعلام، يتحول المرشح إلى صورة تلفزيونية قبل أن يكون مشروعاً سياسياً. صورته تُصنع عبر "المونتاج الإيديولوجي"، حيث تُضاف مؤثرات صوتية على خطابه كأنها موسيقى فيلم بطولي، فيبدو المرشح أشبه بنجم هوليود براد بيت الديمقراطية، بينما خلف الكاميرا يقف فريق العلاقات العامة يهمس: "قلها الآن… ابتسم… الآن انظر نحو الأفق"!
تحليل الخطاب الإعلامي بين الحقيقة والإعلان
حين نطبق تحليل الخطاب الإعلامي على الحملات الانتخابية العراقية، نجد أن اللغة المستخدمة تتراوح بين الخطاب الوجداني والخطاب الإيحائي والخطاب الكوميدي غير المقصود. فكل حزب، مهما صغر أو كبر، يملك شعاراً يُظهره كمنقذ وطني خرج لتوه من إحدى صفحات التاريخ. لكن التحليل الفلسفي لهذا الخطاب، يكشف أنه ليس سوى محاولة إقناعية متقنة الصياغة لغوياً، فقيرة المحتوى منطقياً. المرشح لا يقدّم برنامجاً، بل يقدم رؤية شعرية للعراق القادم؛ بلد بلا فساد، بلا بطالة، بلا كهرباء منقطعة، أي بلد في الخيال الإعلامي فقط. ولأن الخطاب الانتخابي في العراق يُنتج داخل غرف مغلقة من الخبراء في الإقناع لا في الإصلاح، فإن كل رسالة إعلامية تحمل بين طياتها ما يسميه علماء التواصل بـ"الرسائل الضمنية"، وهي تلك الهمسات الخطابية التي تقول للمواطن؛ اخترني لأني ابن منطقتك، لا لأنني أصلح من غيري. تحليل الخطاب الإعلامي هنا يشبه التنقيب في رواية مليئة بالرموز؛ صورة المرشح وسط الأطفال الفقراء تعني "الأب الحنون"، ظهوره بجانب جندي تعني "الوطني الشجاع"، وظهوره أمام مسجد أو كنيسة يعني "المرشح المتدين"، أما ظهوره في استوديو فاخر فيعني "المرشح العصري". وكلها رموز تؤدي إلى غاية واحدة؛ بيع الوهم بطريقة لذيذة.
الإعلام كوسيطٍ فلسفي بين الواقع واللاواقع
تُعلّمنا فلسفة الإعلام والتواصل أن الوسيلة ليست مجرد ناقل للمعلومة، بل فاعل في تشكيلها، وأن الوعي الجمعي يتكوّن من تراكم الصور لا من تراكم الأفكار. لذلك، فإن الانتخابات العراقية ليست منافسة بين الأفكار، بل بين الإعلانات.
في بلد تُبث فيه عشرات القنوات الحزبية، يتحول المشهد الانتخابي إلى لوحة فوضوية من الأصوات المتقاطعة، حيث لا يسمع أحد أحداً، لأن الجميع يتحدث بلغة واحدة: لغة "نحن الأفضل". وهنا تتجلى السخرية الفلسفية؛ فكل طرف يدّعي أنه يمثل الشعب، لكن أحداً لا يسأل الشعب نفسه ماذا يريد. من منظور فلسفة التواصل، هذه حالة نموذجية من "انفصال الرسالة عن مرسلها"، حيث يتحول الإعلام إلى دائرة مغلقة تتحدث إلى نفسها، تُعيد إنتاج خطابها لذاتها، فيما يقف المواطن متفرجاً، يتابع التصريحات كمن يتابع مباراة كرة قدم طويلة بلا أهداف، لكن بكثير من الصياح.
الخطاب الإعلامي كطقسٍ جماعي
تحليل الخطاب الإعلامي العراقي خلال الانتخابات يكشف أيضاً عن بعد طقوسي. فالإعلانات الانتخابية لا تُعرض فقط للإقناع، بل لتأكيد انتماء الجماهير إلى هوية مقدسة جديدة؛ هوية الحزب أو الزعيم. وهنا يصبح الإعلام بمثابة الكاهن الجديد الذي يبارك الجماهير ويمنحها شعوراً زائفاً بالمشاركة. فالبرامج الحوارية تتحول إلى منابر اعتراف، والمرشحون إلى قديسين يتحدثون بلغة النقاء الوطني، فيما يستبدل المواطن بطاقة الاقتراع بمسبحة سياسية يردد بها أسماء الأحزاب.
ومن الطريف أن نلاحظ كيف تُستخدم الرموز الدينية والعشائرية واللغوية لتكريس صورة المرشح، حيث تُمزج مفردات "الجهاد، والكرامة، والهوية" بمفاهيم "الحداثة، والتغيير، والإصلاح"، ليُنتج الخطاب الإعلامي مزيجاً من التقوى الرقمية والشعبوية التلفزيونية. فلسفة الإعلام هنا ترى في هذا المزج عملية "إعادة سحر للسياسة"، أي تحويلها من عملية عقلانية إلى طقس إيماني، لا يُسأل فيه المرشح عن برنامجه، بل عن نياته الحسنة وصلاته العشائرية.
المواطن كمتلقٍّ ساخرٍ قَسري
من منظور فلسفة التواصل، المتلقي ليس كائناً سلبياً، بل شريك في إنتاج المعنى. ولكن في العراق، المتلقي غالباً ما يجد نفسه في موقع الساخر المُجبَر على المشاهدة. فهو لا يصدق الإعلام، لكنه يتابعه بشغف، كما يتابع شخص عرضاً مسرحياً يعرف أن نهايته مأساوية لكنه لا يستطيع مغادرة القاعة. هذا المتلقي العراقي، الذي يفرّ من قناة إلى أخرى، يطوّر ما يمكن تسميته بـ"وعي ساخر"، أي أنه يتفاعل مع الخطاب الإعلامي لا باعتباره حقيقة، بل باعتباره كوميديا سياسية. وربما يكون هذا الوعي الساخر هو آخر أشكال المقاومة الممكنة في مجتمع تستهلكه الدعاية. من هذا المنظور، يصبح الضحك شكلاً من أشكال الوعي، والسخرية أداة للفهم. فحين يضحك العراقي من خطاب المرشحين، فهو لا يهرب من الواقع، بل يعريه. إنه يقول؛ "أنا أفهم اللعبة، لكنني سألعبها بطريقتي." إن أخطر ما تكشفه فلسفة الإعلام في الحالة العراقية، هو أن الخطاب الانتخابي لم يعد وسيلة تواصل، بل أصبح أداة تبرير لغياب التواصل نفسه. فالإعلام، بدل أن يكون جسرًا بين السياسي والمواطن، صار جداراً بينهما. وما يزيد المفارقة حدة أن المرشحين الذين يرفعون شعار "الشفافية" هم أنفسهم الذين يختبئون خلف حملات إعلامية مصممة بعناية لتجنب أي سؤال حقيقي. تحليل الخطاب هنا يبيّن أن "الكلمة" فقدت معناها الأصلي. فحين يقول المرشح "إصلاح"، يقصد "مناورة". وحين يقول "وطن"، يقصد "دائرة انتخابية". وحين يقول "المواطن الكريم"، فهو يقصد "الناخب المحتمل".
حين يصبح الضحك فلسفة وطنية
في نهاية المطاف، يمكن القول إن الصراع الانتخابي في العراق ليس مجرد تنافس سياسي، بل عرض فلسفي ساخر يكشف كيف يمكن لوسائل الإعلام أن تخلق واقعاً افتراضياً، يعيش فيه السياسي بطلاً والجمهور متفرجاً.
إن فلسفة الإعلام والتواصل تجعلنا نرى أن "الانتخابات" في معناها العراقي ليست ممارسة ديمقراطية بقدر ما هي تجربة تواصلية معقّدة، تُظهر كيف يتحول الإعلام من وسيلة لتنوير الرأي العام إلى وسيلة لتخديره.
أما تحليل الخطاب الإعلامي فيُظهر أن السخرية لم تعد سلاحاً في يد المثقفين فقط، بل أصبحت اللغة اليومية للوعي الشعبي الذي أدرك أن الديمقراطية، كما تُقدّم على الشاشة، لا تختلف كثيراً عن الإعلانات التجارية؛ الكثير من الوعود… والقليل من المحتوى. ربما تكون السخرية هي الشكل الأخير للفلسفة في العراق الانتخابي. فحين يضحك المواطن من خطابات المرشحين، فإنه يمارس فعلاً نقدياً بامتياز. يواجه آلة الإعلام الضخمة بابتسامة ساخرة تقول أكثر مما تقوله مئات التحليلات الأكاديمية. من منظور فلسفة الإعلام والتواصل، هذا الضحك هو لغة مقاومة رمزية، تُعيد التوازن بين المواطن والخطاب الإعلامي الذي حاول أن يصادر وعيه. وهكذا، ينتهي الصراع الانتخابي لا بفوز أحد الأطراف، بل بفوز اللايقين، وبانتصار العقل الساخر الذي وحده يفهم اللعبة دون أن يصدقها.










