TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: كلمة السرّ: مسار بولونيا

قناديل: كلمة السرّ: مسار بولونيا

نشر في: 12 أكتوبر, 2025: 12:04 ص

 لطفية الدليمي

الجدارة Meritocracy والنخبوية Elitism مفردتان غائبتان في حياتنا العراقية. نفضّلُ العمل بمبدأ الحشود. يبدو أنّ عقلنا العراقي يميلُ للعمل على أساس أنّ (قطرات كثيرة تملأ جراراً كبيرة). تبدو هذه المقاربة خطّية ميكانيكية مباشرة ومخالفة لطبيعة العمل الإبداعي. الإبداع الحقيقي ليس ناقلة بضائع ضخمة يمكن لألفٍ من السواعد المتكاتفة المكتنزة بالعضل أن تُخْرِجَ عجلاتها المغروزة في الوحل. ليس بمستطاع ملايين البشر أن يصنعوا سيمفونية بيتهوفنية أو أن يبتدعوا علامة شاخصة في جبهات العلم المُتقدّمة. الحشود تصبح عطالة في عالم الإبداع .
لماذا نُعلي شأن الحشود على الجهد الفرداني؟ ربما بسبب بيئتنا والعناصر المشكّلة لثقافتنا التي ترى في الحشود على اختلاف ألوانها موائل للسكينة وراحة البال. لن ننسى بالطبع الرؤى السياسية (الحزبية) التي تجعل الفردانية أقرب إلى العُهْر الآيديولوجي. نحن منذ الصغر لا ننشأ على أساس قاعدة واضحة: أنّ المرء تتحقق إنسانيته الكاملة متى تحمّل بالكامل كلّ النتائج المترتّبة على خياراته الفردية. لا نحبّ هذه القاعدة، ونفضّلُ أن نبقى عالقين في مدار العائلة والحكومة والجماعة. ربما أضاف الخلط المفاهيمي السيئ بين موجبات العدالة والمساواة تشويهاً إضافياً فوق التشويه الذي لحق بالجدارة والنخبوية. ننسى أنّ العدالة تعني المساواة في استحقاقات وقدرات خط الشروع من غير تمييز سياسي أو طبقي؛ لكنّ النتائج ستكون بالطبع متباينة. هذا هو قانون الطبيعة. كيف يستوي المجتهد التَّعوب مع الكسول المتبطّل المراوغ الذي يعتاش على إصطياد الفرص؟
في العراق يبدو أنّنا نعادي الجدارة والنخبوية. لا نحبّهما ولا نطيقهما. نريد دوماً الإلتفاف على المترتّبات التي تنتج عنهما بغية خرق القانون الطبيعي تحت مسوّغات سياسية في الغالب تُعلي شأن الحشود على الإجتهاد الفردي. حتى لا نغرق في لجّة الفضاءات الواسعة سأخصّصُ الكلام عن التعليم العالي. يبدو التعليم العالي لدينا ساحة مُشْرَعة للجميع. نبذلُ الموارد القليلة المتاحة لتكون طوع الجميع تحت ستار كاذب يتقنّعُ بالعدالة الإجتماعية. ربما كانت الدراسات العليا هي البوّابة الوحيدة التي يمكن عبرها للمتفوّقين المجتهدين أن يعبّروا عن بعض جدارتهم وقدراتهم النخبوية. كان نظام البعثات العراقية رصيناً إلى حدّ معقول منذ بعثات فولبرايت في الحقبة الملكية، ثمّ تواصل هذا النظام بقدر من المقبولية يحقّقُ شرط الرصانة والجودة. حتى في ظروف الحصار تحققت تجربة جديدة عندما جعل مسؤولو التعليم العالي جامعة النهرين تختصُّ بالجبهات العلمية المتقدّمة، واعتمدت نظاماً دراسياً غير مسبوق لم يكن بإستطاعة غير المتفوّقين أن يتكيّفوا معه.
ما الذي يحصل اليوم في التعليم العالي؟ يحصل نسفٌ كامل لإشتراطات الجدارة والنخبوية. كليات وجامعات جديدة تُفتَحُ سنوياً من غير حساب. صار الجميع يريد الدراسة العليا لأنّها صارت وسيلة مضمونة لزيادة الراتب فقط من غير أيّ استثمار نوعي للقدرات العقلية والتقنية. صارت الجامعات والكليات العراقية، الحكومية والأهلية، تطلقُ كلّ عام في السوق العراقية كتلاً بشرية سنغالي كثيراً لو تصوّرنا أنّها نالت تدريباً علمياً رصيناً. الفضيحة أكبر بكثير من أن توصف بعبارات قليلة.
هل سمعتم يوماً طلبة دراسات عليا في العراق في سنوات سابقة يطالبون بإضافة درجات نجاح إلى نتائجهم ( يسمّونها curve بالمصطلحات السائدة بينهم)؟ ألا يشعرون بالخجل من أن تكون ال (50) درجة نجاح لهم؟ ثم يريدون إمتحاناً ثالثاً إضافياً للدور الثاني تماشياً مع السُنّة السيّئة في الدور الثالث للبكالوريا. أنُسَمّي هذه بعد كلّ تلك الخطايا دراسات عليا؟ يبدو أنّ القانون السائد هو أنّ كلّ طالب دراسات عليا يجب أن ينال الشهادة بصرف النظر عن استحقاقه.
تابعتُ في هذا السياق لقاءات عديدة لوزير التعليم العالي (أخجل من إضافة البحث العلمي إلى عنوانه. هل بقي لدينا بحث علمي؟). يبدو الوزير في حديثه وكأنّه يردّدُ قصيدة محفوظة. يقول في أحد لقاءاته أنّه كان يحلم بتطبيق مسار بولونيا في التعليم الجامعي العراقي منذ سنوات بعيدة، وقد حانت له الفرصة لتحقيق حلمه. أين ومتى كان يحلم بهذا المسار؟ ومتى سمع به لأوّل مرّة؟ يردّدُ كلمات فحسب. يتكلّمُ وكأنّ مسار بولونيا هو كلمة السر أو التعويذة السحرية التي ستحلّ كل معضلات التعليم العراقي. وزيرُ تعليم قبله لم يكن لسانه يبطل من ترديد تأكيده على تطبيق معايير جودة التعليم ISO. هل الكلمات أو التطلعات الرغبوية تصنع فارقاً نوعياً؟ لا تصنع بالتأكيد. لن ينسى الوزير أن يعرّج على عبارة (المفاعل دون الحالة الحرجة) للدلالة على مفاعل بحثي صغير يستخدمُ للأغراض الدراسية من غير إمكانية توظيفه في مجالات أخرى. ما بين مسار بولونيا والمفاعل دون الحالة الحرجة سنسمع تكراراً لكلية التميّز وكلية الذكاء الإصطناعي، وتخصيص راتب شهري قدره مائتا ألف دينار للطلبة في هاتين الكلّيتين اللتيْن يُراد منهما فكُّ الإختناق الحاصل في كليات المجموعة الطبية. لم ينسَ الوزير إعلان البشارة لطلبة هاتين الكليتيْن: دراساتك العليا مضمونة فور إنتهاء دراساتك الأوّلية!!. يبدو أنّ الذكاء الإصطناعي صار موضة التعليم في العراق الجديد: كليات وأقسام له بالعشرات صارت تُفتَحُ من غير حساب. يظهر في أحد الإعلانات عميدُ إحدى هذه الكليات ليعلن أنّ قسم الذكاء الإصطناعي سيقبل طلبة بمعدّل يحوم حول 56 % في الدراستين الصباحية والمسائية. ما هذا العبث؟
يبدو أنّنا في العراق الجديد نخالف حركة التاريخ. في وقت يسود فيه الحديث العالمي عن تقادم نظام الشهادات العليا (الدكتوراه) وكونه ينتمي إلى العصور الوسطى ولا يتّفق مع التطوّرات الثورية في طبيعة الجامعات ووظيفتها في عصر الذكاء الإصطناعي، نرى لدينا تكريساً مَرَضياً لنزعة الحصول على الشهادة العليا بغية استنزاف موارد العراق في امتيازات شكلية سخيفة لا تضيف للتنمية الحقيقية شيئاً. لا أريد الإستزادة من إستعراض مشاهد التهافت لدى بعض العراقيين من طلبة الدراسات العليا في جامعات دول الجوار.
أباطرة التقنية المعاصرون ليس بينهم من هو حاصل على شهادة عليا. نحن على أعتاب تغيير بنيوي في فلسفة التعليم العالي على مستوى عالمي. ماذا نصنع بهذه الحشود المؤلّفة من حاصلين على شهادات عليا لا أهمية لها؟ أظنُّ أنّ الإجراء الفوري المناسب هو الإيقاف الشامل للدراسات العليا لخمس سنوات على الأقلّ، أو تحديد الأعداد المقبولة فيها، ريثما يستفيق مسؤولو التعليم العالي من رقادهم ويدركون أنّ النهضة العلمية والتقنية لا تصنعها حشود مليونية بل عقول فرادى تعرف كلمات السر الحقيقية للتنمية، لا تلك التي تستطيب تكرار تعويذة (مسار بولونيا) السحرية في كل لقاء تلفازي أو مقابلة صحفية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram