علاء المفرجي
سيرته المهنية والحياتية
ولد الدكتور علي جواد في مدينة الحلة – بابل عام 1919، درس في مدارسها، ثم في دار المعلمين العالية، ومن فرنسا نال شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، منذ خمسينيات القرن الماضي شرع بتأسيس مشروعه الثقافي، ترجمة، تأليفا، تنظيرا، وتطبيقا حتى بلغ شأنا رفيعا في الأدب العراقي ولقب بشيخ النقاد، نافت كتبه على الأربعين كتابا، وهو في ذلك يعد واحدا من كبار المؤلفين المبدعين في الوطن العربي شأنه شأن طه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، لا فقط من حيث العدد بل الجودة والتنوع في التراث والمعاصرة، في التحقيق والتأليف، في الترجمة، في النقد التنظيري والنقد التطبيقي.. الدكتور الطاهر مربّ في الحياة والأدب، مؤسس وملهم وراع... ذو يراع صنعته ثقافة موسوعية عالية، وذو رأي خلقته دقة المعرفة والاطلاع، ساح في ربوع التراث وأنعطف في دروب المعرفة العالمية والعربية والمحلية، عالم يعترف (الجميع بذلك) وفي أكثر من ميدان. استعين به لمراجعة ترجمة كتاب هنري ترويا عن تشيخوف، والمترجم شاعر عربي ضليع في الفرنسية، تربى عليها منذ نعومة أظفاره، لكنه خرج بحقيقة جوهرية ثبتها في مقدمة ترجمته (أنني مدين كثير الدين للشيخ العلامة علي جواد الطاهر، دكتورا وإنسانا، فقد تتبع في مراجعته الترجمة كل كلمة وحرف في النصين، وكان لملاحظاته أثر كبير في تسديد هفوات كثيرة، إن الدكتور الطاهر كان مفاجأتي وغبطتي معا فما كنت أعرفه عنه كثير، لكن أما تمت لي معرفته عبر الاحتكاك بهذه السيرة عن تشيخوف يقنعني للمرة الألف إن درب الكمال في المعرفة والتخصص يحتاج إلى من هم مثل الدكتور) وبأم عيني رأيت واحدا من كبار نقادنا المعاصرين هو الناقد الألمعي عبد الجبار عباس منحنيا على يد الطاهر ليلثمها، وذلك تواضع كبير من تلميذ نجيب... غير إن الأستاذ يواجه ذلك بتواضع أكبر بعد إن توفي التلميذ النجيب والناقد الكبير عبد الجبار عباس فألف عنه كتابا قيما، وتلك سابقة لا مثيل لها، وبأم العين وملء الأذنين سمعت الطاهر وهو يسحب كفه من شفتي عبد الجبار عباس وعيناه مغرورقتان بالدمع، يقول لنا (اعتنوا بعبد الجبار). توفاه الله تعالى في 9/10/1996 في بغداد اثر مرض عضال
عن البحث الأدبي
يقول الناقد سعيد عدنان: كان عليّ جواد الطاهر قد نشأ على حبِّ الأدب، والتزوّد من قديمه وحديثه؛ قراءة وحفظًا؛ فلمّا انتظم في دار المعلمين العالية وجد فيها أساتذة يتّخذون من الأدب ميدان دراسة تقوم على منهج رصين؛ يبدأ بحسن الإحاطة، وتفهّم النُّصوص، وتبيّنِ آثار المكان والزَّمان فيها. يقول وهو في سياق الوقوف على المنهج ومكانته من دراسته في دار المعلّمين العالية: “وإذ حان العصر، وحلَّ درس التَّاريخ القديم؛ طلعَ علينا الأستاذ طه باقر فأكبرناه منذ الدرس الأول؛ وبدأ الأستاذ يمهّد لدرس التاريخ محاولًا أن ينقل إلينا أطرافًا من مادّة شغلت الغرب فوعاها: هل التَّاريخ علم؟ وتحدّث لنا في ذلك غير قليل عارضًا طبيعة المسألة، مبيّنًا آراء المعارضين والمؤيدين حتّى انتهى إلى أنَّ التَّاريخ علم بالطريقة التي يتّبعها في بحثه وتحرّيه الحقائق”.
وحين التحق بجامعة السوربون في سنة 1948، واتّصلت أسبابه بالمسيو بلاشير، ورأى المنهج الفرنسيّ في معالجةِ الأدب ودراسته، وهو منهج، مثلما تجلَّى عند لانسون، لا يُغفل التاريخ، بل يُفيد منه ويزيد عليه ممّا يتّصل بجوهر الأدب؛ استقرَّ لديه مفهوم متماسك للدرس الأدبيّ؛ يقوم على عناصر مؤتلفة منسجمة من التراث العربيّ والأدب الفرنسيّ؛ يبدأ بالنصّ ويضيئه بما حوله!
زاول الطاهر البحث بهدي ممّا استقر لديه من مفهوم صحيح للبحث الأدبيّ، وبلغ في ذلك مبلغًا رفيعًا جعل من مؤلّفاته مرموقة الجانب عند الدارسين. وقد تمثّلت في بحوثه جملة مبادئ لم يحد عنها فأخذ نفسه بها، وأجرى كلّ شؤونه في البحث عليها. كان ينتقي تلك الموضوعات الجديدة التي لم يتناولها بحث، ولم يقف عليها دارس؛ لكنّها قيّمة في سياق الأدب، إذ كانت ثمرةً لما قبلها، وكان لها أثرٌ فيما بعدها. فقد كتب (الشعر العربيّ في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقي)، ونال به الدكتوراه من جامعة السوربون في سنة 1954، ولم يكن أحدٌ من قبل قد جعل هذا الشِّعر موضع درس وعناية. وقد أقامَ دراسته على ركنين متعاضدين؛ هما التَّاريخ والفن! وكتب (محمود أحمد السيّد – رائد القصّة الحديثة في العراق) ونشره في سنة 1969، يوم كان السيّد مجهولًا أو كالمجهول، لدى القرّاء، على ريادته في القصَّة، وفي أشياء أخرى. وقد كان ركنا التَّاريخ والفن قوام الدراسة. وألّف (أبو يعقوب الخُريميّ، حياته وشعره) ونشره في سنة 1986؛ وكان من قبل قد نشر ديوانه مع محمّد جبّار المعيبد، إذ لم يكن الخُريميّ ممّن شُغل به الدارسون. وقد أقام الدراسة أيضًا بضوء من التاريخ والفنّ. ولا ريب في أنّ العناية بالفنّ وخصائص البيان هي الغاية التي تسعى إليها هذه الدراسات، وما التاريخ وما يتّصل به إلّا وسيلة تُستكمل بها تلك الغاية.
فن المقالة عند الدكتور علي جواد الطاهر
إنّ من أبرز ما تميز به الدكتور الطاهر في حياته الأدبية هو كتابة المقالات الادبية (فكتب المقالة التي تترقق فيها روح الشعر, وله في ذلك مقالات وراء الافق الأدبي, وأساتذتي ومقالات أخرى, والباب الضيق, والباب الواسع الذي هو مقالات نشرها في جريدة الثورة, ولم يجمعها كتاب, وكلها مقالات تلتقي على ما ينظمها من الامتاع, والافادة عبر طراوة الصياغة, وبراعة الادارة, وقد ألقت مقالاته الأدبية بظلها على مقالاته النقدية).
ولا تنطلق المقالات الا من شأن من شؤون الأدب يقتضي نظرا ومعالجة, كأن يرى الطاهر ما يثير السخط في حقل الادب فلا يقف من ذلك موقف الباحث تحليلا وتعليلا بل يستثمر الباعث في صياغة أدبية تفصح عن معنى السخط افصاحا يلتقي فيه التهكم بالسخرية من خلال حيوية الأسلوب .
واذا بدت مقالات الدكتور الطاهر معتزة بشكلها الأدبي فلها ان تعتز بمضمونها ذي الرسالة الثقافية القائم على نقد ما هو فاسد وفضحه, غير أن الطاهر يرى سمو الموضوع امرا مفروغ منه وهو كائن لديه في كل ما يكتب فيتجه بعناية الى شكل المقالة وانتقاء لفظها وحسن ادارتها على نحو من انحاء السمر والالفة والى نشر مقالته على صفحة آفاق من جريدة الجمهورية حتى اذا اجتمع لديه قدر صالح مما نشر فيها وفي غيرها ضمنه بين دفتي كتاب اسماه (وراء الافق الادبي) وجعل تحت عنوانه كلمة (مقالات) الصادر عام (1977م) دلالة على نمط الكتابة.
لقد حقق الطاهر في حقل المقالة الادبية شيئا كثيرا صاغها بلغة حية طرية يتسرب اليها الفكر والعاطفة على اعتدال متوازن وبناها بلباقة وإحكام فلا فضول هنا ولا قصور هناك وجعلها شائقة تقرأ وتستعاد.
داخل النقد خارج الأسوار
يقول الناقد حاتم الصكر عن الطاهر: لم يكن الدكتور علي جواد الطاهر(الحلة- بابل 1919-1996) أكاديمياً يرضيه أن يظل وراء أسوار أكاديميته، بل وجد نفسه بعد عودته من السوربون عام 1952منغساً في قضايا النقد الأدبي التي وجد أنها غائبة عن لائحة الدرس الجامعي، كالعناية بالسرد ونقده، ومناهج البحث وطرق دراسة الأدب، والتوجه إلى النصوص ،تجنباً لعموميات الكتابة النقدية وانشغالات تاريخ الأدب الذي استقل مادة منفصلة ،لتنشأ دراسة الأدب عبر نصوصه .
وكان علي جواد الطاهر في ذلك كله يوازن بين عمله التربوي ومهمته في النقد الأدبي. فأدخل دروساً جديدة في البرامج الدراسية لطلبة الجامعة ،وركّز على تحليل النصوص والكتابة، وتعلُّم أسس البحث الأدبي والنقدي وقواعده.فيما تمددت جهوده النقدية في الصحافة والدوريات والندوات والمحاضرات الثقافية فكانت حيويته باعثاَ لالتفاف طلاب وباحثين كثرٍ حول منهجيته واهتماماته النقدية .ومن جهة أخرى كان وجوده يوازن بمعرفته بالفرنسية بين الثقل التعليمي والنقدي للمناهج السائدة بتأثير العائدين من بريطانيا وتحمسهم لمقولات النقد الجديد، وبين ما تقترحه المناهج النقدية الفرنسية من رؤى وتصورات جديدة في حينها مكملاً هذه المعرفة باستيعاب للتراث النقدي العربي وقراءته بوعي متقدم .وتمثَّلَ ذلك بجهوده في التحقيق والاستدراك والمناقشة لكثير من كتب التراث النقدي والشعري. وانسجاماً مع وعيه بأهمية النقد الحضارية والثقافية فقد ألَّف أول كتاب منهجي في النقد الأدبي تم إقراره مادة لطلاب المدارس الثانوية في العراق. وبرزت جهوده في الأدب المعاصر حيث حقق ونشر قصصاً لمحمود أ حمد السيد الذي يعد رائد الكتابة القصصية الحديثة في العراق، وقام بدراسته في كتاب آخر مشخصاً دون حماسة لريادته ما في قصصه من إنشاءوكتابة تقترب من المقالة والتعليق على الأحداث ، وهو ما لا ينسجم مع الكتابة الفنية للقصة كما ثبت من مزاياها في الدراسات ا لحديثة والكتابة القصصية في العالم.
لكن ما يلفت الطاهرُ نظرَ قارئه إليه هو محاولة السيد المخلصة في تناول مشكلات واقع المجتمع، وأوضاع العراق السياسية في فترة ذات أهمية كبيرة هي العشرينيات والثلاثينيات التي شهدت نتائج الحرب العالمية الأولى، وتوسع هيمنة الإستعمار الأجنبي في البلدان العربية. وسيجد الطاهر نفسه متطابقاً – رغم اعتراضاته الفنية- مع فكر السيد ومضامين قصصه ذات المنحى النقدي الواقعي التي كتبها تأثراً بما قرأ مترجَماً من القصص الروسية .
ولعل ميل الدكتور الطاهر إلى المنهج الواقعي في الكتابة الأدبية تولدت من إيمانه المبكر بأهمية أن يتمثل الأدب معاناة الناس وواقعهم ، وأن يتوافق ذلك مع أسلوب عرض تلك الحبكات السردية الذي يرى أنه يجب أن يكون واضحاً دون إبهام وغموض، وهو ما سيطلبه نقدياً عند قراءة الشعر ونقده، وما يقدم من تحليلات نصية وتعليقات وشروح للنصوص الشعرية ، فقد أكّد على انكشاف معاني القصائد للقارئ، وأن يكون الغموض الصوري أو اللغوي يشف عن المعنى ليراه القارئ ولا يحجبه عنه تماماً ، وهو ما يعبر عنه بالقول عند تحليل قصيدة للجواهري((الشعر الأصيل لا يعطيك نفسه أول وهلة ، ولا يمنع نفسه عنك تمام المنع)).
وعميد الأدب العراقي
يقول المفكر البحريني د. عبدالله المدني: يعد الدكتور علي جواد الطاهر علامة مضيئة وقامة من قامات العلم في تاريخ وطنه العراق وسائر أوطان العروبة، بسبب صولاته وجولاته في حقول الأدب والنقد والتاريخ على مدى نصف قرن، ومؤلفاته المتخصصة الكثيرة وسيرته العطرة في مجال التدريس وتخريج الأجيال المتعاقبة من المبدعين، وحضوره القوي على صفحات المطبوعات العربية، وتسيّد طروحاته وأفكاره وحواراته المشهد الثقافي العربي. وهذا كله ليس بمستغرب على إنسان نشأ وتعلم في العراق، موطن الحضارات والعلوم والفلسفات، في زمنه العبق الجميل، ثم أقام ودرس في عاصمتين من عواصم العلم والانفتاح والمدهشات (القاهرة وباريس)، ناهيك عن سنوات قضاها في قلب الجزيرة العربية، معلماً وباحثاً ومحققاً ومحاضراً. وبالمثل فإنه ليس بالمستغرب أن تحظى شخصية كهذه بتقدير المؤسسات والاتحادات والجمعيات العلمية والثقافية الرسمية وغير الرسمية في كل الوطن العربي، استضافة وتكريماً وإشادة ووداً، ومنه فوزه بجائزة سلطان بن العويس الثقافية في دورتها الأولى (1988/1989) في حقل الدراسات الإنسانية والمستقبلية.
غير أن مشوار الرجل لم يكن دوماً مفروشاً بالورود، فمن كان مثله صاحب عقلية علمية فلسفية وتجارب زاخرة وعلاقات متشعبة وجرأة في التعبير وصدق في البيان، يظل معرضاً على الدوام للمنغصات والظلم، خصوصاً في بلد يفتقد الاستقرار السياسي وتتقاذفه الانقلابات العسكرية ويصطبغ تاريخه بالعنف والدم كالعراق.
ويواصل: حينما عاد إلى العراق بعد رحلته العلمية تلك، التي ساهمت في صقل شخصيته الأدبية، فتحت أمامه منافذ جديدة للإبداع والعمل، خصوصاً في ظل نظام العراق الجمهوري بعد عام 1958، الذي أراد الاستفادة من علمه وخبرته، فعينه في «لجنة تأليف الكتاب المدرسي». وبصفته تلك وضع أول كتاب لمادة النقد الأدبي للمرحلة الثانوية سنة 1958، وفي العام التالي تمّ تعيينه مدرساً في كلية الآداب بجامعة بغداد، حيث واصل عمله بجهد وتفان مشهودين، وترقى أكاديمياً بحصوله على درجة أستاذ مساعد، وأثناء هذه الفترة شغل أيضاً منصب سكرتير مجلة كلية الآداب، كما كان في الفترة ما بين عامي 1959 و1963 أول سكرتير تحرير لاتحاد أدباء العراق.
الهرب من بغداد
في مارس 1963 حدث ما لم يكن في حسبانه، بل ما غير مجرى حياته، وتسبب في خروجه من العراق إلى السعودية. ففي ذلك التاريخ استلم حزب البعث السلطة في بغداد بعد انقلابه الدموي على نظام الزعيم عبدالكريم قاسم. وما لبث أن بدأ الانقلابيون مسلسل التخلص من خصومهم بحجج واهية. وكان الطاهر أحد الضحايا، حيث اتهم باعتناق الفكر اليساري، وصدر قرار بطرده من عمله الأكاديمي وكافة مناصبه الأخرى.
ويواصل المدني حديثه عن الطاهر: وهكذا خسره العراق واستفادت منه السعودية التي احتضنته لمدة خمس سنوات بدأت عام 1963 وانتهت بعودته إلى العراق عام 1968. عن ظروف قدومه إلى السعودية أخبرنا الدكتور عبدالله عبدالرحمن الحيدري (أستاذ الأدب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) في صحيفة الشرق الأوسط (5/10/2021)، نقلاً عن كتاب «طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات» للدكتور علي القاسمي ما مفاده أن من فصلتهم حكومة البعث من جامعة بغداد - إلى جانب الطاهر - الدكاترة محمد مهدي المخزومي وخالد الجادر وشاكر خصباك وغيرهم، ولأن خصباك كان على معرفة برئيس جامعة الرياض آنذاك الدكتور عبدالعزيز الخويطر، كونهما تزاملا أثناء دراستهما العليا بجامعة لندن، فقد كاتبه شارحاً وضعه ووضع زملائه المفصولين. ما حدث بعد ذلك هو أن الخويطر أبرق لخصباك يخبره بأن الحكومة السعودية أعطت تعليماتها إلى السفير السعودي في بغداد للتعاقد معه ومع جميع زملائه المفصولين للتدريس بجامعة الرياض.
لماذا ثار علي جواد الطاهر على البنيوية
نشر الدكتور مقالاً بعنوان (البنيوية أعلى مراحل السوء في ترف نظرية الفن للفن) في مجلة العرب عدد سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) 1988، وأعادت جريدة «الوطن» نشره في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2024، ذهب فيه إلى أنه في أعوام الستينات الميلادية المنصرمة، انطلاقاً من باريس، قامت الدنيا في أوروبا وأميركا ولم تقعد، وكذلك في الشرق على علم وغير علم، حول تبني البنيوية وتفرعاتها... متسائلاً: ماذا جرى وماذا جد؟ أصوات ترتفع بالجديد، ونهاجم البحث (الأكاديمي) السائد حيث خلا الجو في باريس من أندريه جيد ومورياك ومورو وغياب أساطين السوربون، فثارت ثورة بحثاً عن تميز جديد، هذا ينادي برواية جديدة (يعني ألن روب جرييه وناتالي ساروت) وذاك ينادي بطلاب جدد - كأنه يشير إلى ثورة الطلاب سنة 1968 معتبرين أنفسهم في موقع الأساتذة! - كما عبّر عن ذلك بيار دوشين في روايته (الموت حباً) وقد تزوج الطالب ذو السبعة عشر عاماً أستاذته الثلاثينية، وآخر يطالب بسوربون جديدة ليست سوربوناً بتقاليدها الأكاديمية العريقة، التي درس الطاهر في أروقتها بين نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، على يدي أبرع الأكاديميين المستشرقين (ريجيس بلاشير في أطاريحه عن القرآن الكريم وشعر العرب الأقدمين - المتنبي خاصة - وشارل بيلا الذي لم يلفت نظره في مجمل التراث العربي سوى الجاحظ بأطروحته اللافتة عنه).
ويواصل الطاهر تساؤله النقدي الثقافي: «لم يسأل أحد من المتحمسين المبشرين بالبنيوية عن التاريخ القريب... فأين كانت الأسماء الأوائل من مؤسسيها وما خطبهم (كأنه يقصد ميخائيل باختين الروسي وتزفيتان تودوروف وجوليا كريستيفا الفرنسيين من جذور بلغارية)؟ لمَ هاجر من هاجر من موسكو ولينينغراد وبراغ، ومنهم النقاد الشكلانيون الروس الذين نادوا بإفراغ الأدب من محتواه الاجتماعي تحت رعاية القيصر ومؤسساته، قبل انفجار ثورة 17 أكتوبر 1917، بعدها برزت البنيوية التي قادها كلود ليفي شتراوس بدروسه الأنثروبولوجية (1908 - 2009)، مؤكداً أن البنيوية انطلقت من الوقوف على تأمل النص وتحليله، وهذا ما عمل عليه باختين (1895 - 1975) في تحليله البنيوي للخطاب الروائي الروسي، خاصة ديستوفسكي».
إذن، لماذا هذا التطرّف النقدي المطلق لها في باريس بعد ذلك بعقود، والتبشير بها نحو واشنطن مروراً بمغربنا العربي، حيث فُتن بها بعض نقّادها ومفكّريها وبغيرها من مناهج أدبية وفلسفية، افتتاناً سدّ منافذ تذوق المتلقّين المغاربة والمشارقة للنصوص الإبداعية، حداً جعل دكتور شكري محمد عيّاد - وهو أحد أبرز مفكري الأدب والنقد قديمه وحديثه - يكتب مقاله الأكاديمي الاحتجاجي المطوّل في أحد أوائل أعداد مجلة (فصول) المصرية بداية الثمانينات بعنوان (موقف من البنيوية)، وهو القارئ المتعمّق بالفرنسية وغيرها من مناهج النقد الأدبي الحديث.
مؤلفاته
وضع د. علي جواد الطاهر أكثر من 30 مؤلفا، لعل ابرزها (منهج البحث الأدبي). وفاز بجائزة سلطان بن العويس الثقافية في دورتها الأولى في حقل الدراسات الإنسانية والمستقبلية عام 1988 – 1989 وذلك من خلال قرار لجنة التحكيم :
يتميز علي جواد الطاهر بدراساته الأدبية على المستوى الأكاديمي وهي دراسات تتصف بالحرص الشديد على الأناة في الحكم والدقة في النظر إلى الجزيئات من أجل بناء كلي متكامل، والجمع المتنوع بين دراسات تهتم بالتراث وأخرى تهتم بالاتجاهات الأدبية المعاصرة مثل كتابه “مقدمة في النقد الأدبي” و “دراسته عن الشعر الحر والتراث” وهو فيها جميعاً ملتزم بالمنهج العلمي، مؤمناً بجدواه الكبيرة في نقل المعرفة المنظمة. إن مؤلفات علي جواد الطاهر تنقل لقرائها شغفاً صادقاً بالتجويد في العبارة والفكرة والبناء، وإخلاصاً كلياً لروح العلم، وموضوعية البحث النقدي.










