حسن الجنابي
(1-3)
إن تناقص إيرادات العراق المائية يمثل نقطة ضعف سيادية كبيرة، إلى جانب جراح البلد والمجتمع الناتجة عن عقود من السياسات الخاطئة والقمعية داخلياً، والمغامرات والحروب خارجياً. وهذا الأمر لا يمكن معالجته بسهولة، ولا يوجد ما يوحي بأن فداحة الأمر تجبر الحكومة للتوجه الفوري إلى تطوير البدائل المطلوبة قبل أن يهدد الجفاف تماسك المجتمع والدولة.
لقد تأخر العراق كثيراً في الاستجابة لهذا التحدي المائي المصيري لمدة لا تقل عن 40 عاماً في مجال خدمات المياه الصالحة للاستخدام المنزلي، وكذلك في التحول إلى الزراعة الذكية واستخدام التكنولوجية الكفوءة. يرتبط هذا زمنياً بمرحلة إنشاء السدود في دول الجوار الذي تزامن مع دخول العراق مرحلة الحروب والدكتاتورية، التي تكللت بالاحتلال والإرهاب وعجز الترتيبات السياسية لما بعد 2003 التي أنتجت الفساد والمحاصصة والهشاشة لاحقاً.
فمياه الرافدين دجلة والفرات وروافدهما قضية مصيرية في العراق. ومن سوء الحظ، وسوء الحكم، صار العراق محاصراً بشحة المياه وحطام الحروب والعقوبات الاقتصادية، ومن ثم الاحتلال والإرهاب والتحاصص السياسي، مما أضعف قدراته في حماية استقلاله وسيادته وثرواته. وبسبب ذلك، وربما نتيجة له، لم يتحقق الجهد المطلوب خلال العقدين الماضيين لتطوير قدرات المؤسسات الحكومية في هذا الميدان.
إن تحديات ندرة المياه هي من التحديات العابرة للحدود الوطنية، لكن استجابات الدول بشأنها ما تزال فردية وغير منسقة على المستوى الإقليمي. وغالباً ما تكون تلك الاستجابات والمعالجات قصيرة النظر، وتستند على معطيات ووقائع هيدرولوجية لم تعد قائمة كما عرف عنها تاريخياً.
يعزى التغير في المعطيات وحالات اللايقين الناشئة في الطقس السائد بالأساس إلى السيطرة الجائرة على الأنهار، والتدخل بجريانها الطبيعي حسب الاحتياجات التشغيلية الآنية أو الموسمية. ويظهر انعكاس تلك السيطرة وخطط التشغيل غير المنَسّقة، في تشديد المؤثرات المناخية على المستوى المحلي، ويتجسد على شكل ارتفاع غير مسبوق في درجات حرارة سطح الأرض، او في عواصف الغبار وانكماش الغطاء الأخضر وما شاكل ذلك، مما يزيد من الطلب على المياه المحدودة أصلاً.
لقد أنشئت في منطقتنا سدود كبيرة منها سد أتاتورك على نهر الفرات في تركيا، وسد الموصل على دجلة في العراق، وسد اليسو على نهر دجلة في تركيا، وعدة سدود على الكارون وروافده وسد الكرخة في إيران وغيرها، مما أدخل عوامل جديدة وخطيرة في إدارة تلك الأنهار لا يمكن للدبلوماسية الدولية إغفال تأثيرها السياسي والاقتصادي والبيئي.
تكون المشكلات أكثر حدةً وخطورةً عندما تزيد الطاقات التخزينية للسدود على المعدلات السنوية لتصريف الأنهار دون اكتراث للنتائج العكسية التي يمثلها ذلك على الوضع الهيدرولوجي والأحيائي في المناطق والدول التي تقع إلى الأسفل من تلك المنشآت. على سبيل المثال تزيد السعة التخزينية المنصوبة على نهر الفرات على إيراداته السنوية كثيراً. ففي تركيا لوحدها أنشئت خمسة سدود على نهر الفرات هي (كيبان، كرة كايا، أتاتورك، كركاميش وبيريجيك) تبلغ سعتها التخزينية أكثر من ضعف معدل الإيراد الطبيعي السنوي إلى العراق من نهر الفرات التي كانت بحدود 30 مليار متر مكعب. أما السدود الكبيرة التي أنشئت في إيران على نهري الكارون والكرخة فقد قطعت المياه تماماً عن مصباتها الطبيعية في العراق لأن قدراتها التخزينية أكبر من معدل الإيرادات الطبيعية فيها، وتزيد في مجملها على 20 مليار متر مكعب.
إن الزيادة المفرطة في مجموع السعات التخزينية المقامة حالياً على نهري دجلة والفرات في البلدان الأربعة، تركيا وسوريا والعراق وإيران، تخلق توترات خطيرة في منطقة مأزومة وتشهد توترات أمنية وسياسية عديدة. والمشكلة الأكبر ان القدرات التخزينية في السدود تخضع لإرادة المشغّلين في كل بلد على حدة. ويجري تشغيل تلك المنظومات وفق اعتبارات ذاتية لكل بلد، ولا تخضع، على الأغلب، لاعتبارات متعلقة بطبيعة النهر، أو الحوض الذي يجري فيه واستدامته. وفي ظل غياب اتفاقات وأطر رسمية للتعاون في الإدارة المشتركة للنهر العابر للحدود، أو إهمال ما تم التوصل اليه في مراحل زمنية وسياسية سابقة.
ينشأ الخلاف بين الدول عادةً إثر سعي طرف، أو أكثر من الأطراف المشتركة بالأنهار العابرة للحدود، الى بناء منشآت هيدروليكية كبيرة دون التفاهم مع الدولة الواقعة في ذنائب النهر، أو بإغفال الالتزامات المسطّرة في اتفاقيات سابقة بين دول المنبع والمصب. فدولة المصب، كما هو الوضع في العراق، تدفع بالنتيجة ثمناً باهظاً لنقص المياه، أو لانعدام القدرة على التأقلم مع الأوضاع الجديدة التي تتولد عن بسط السيطرة على حركة جريان الأنهار.
إن المنع القسري لحركة المياه الطبيعية في مواسم الوفرة يهدد الشروط الساندة للحياة، ويخلق أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، غالباً ما تكون أكبر بكثير من الفوائد القصيرة الأمد التي تحققها السدود الكبرى على المديات القصيرة. وإن النزاعات الدولية على المياه نتجت بالأساس عن العبث بالدورة الطبيعية للتصاريف النهرية وتوقيتاتها الموسمية.
-يتبع-










