بغداد/ تبارك عبد المجيد
عادت مشكلة الازدحامات المرورية الخانقة في بغداد لتتصدر المشهد من جديد مع انطلاق العام الدراسي الجديد، في مشهد بات يتكرر كل عام ويكشف عن تلكؤ مشاريع فك الاختناقات المرورية التي تتحدث عنها الجهات الحكومية في وسائل الإعلام.
ورغم الوعود المتكررة بإطلاق مشاريع استراتيجية للطرق والجسور وتطوير البنى التحتية، إلا أن الاختناقات المرورية تفاقمت بدل أن تنحسر، وسط شكاوى المواطنين من بطء الإنجاز وضعف التخطيط، واتهامات للحكومة والجهات التنفيذية بالفشل في معالجة جوهر الأزمة.
ويرى مختصون أن الأسباب تتجاوز الزحام الموسمي إلى مشكلات بنيوية أعمق، تتعلق بسوء التخطيط والتنسيق بين المؤسسات، وبالفساد المالي والإداري الذي يعرقل تنفيذ المشاريع أو يحولها إلى ملفات شكلية تُستخدم لأغراض سياسية وإعلامية.
قال المختص في الطرق والجسور محمد عبد الرزاق إن استمرار الزحامات المرورية في بغداد رغم إطلاق الحكومة لعدد من مشاريع الطرق والجسور يعود إلى أسباب تخطيطية وفنية وإدارية متراكمة، مؤكداً أن المشكلة لا تتعلق بعدد المشاريع المنفذة فحسب، بل بطبيعة التنفيذ وسوء التنسيق بين الجهات الخدمية.
وأوضح عبد الرزاق لـ (المدى)، أن “الكثير من المشاريع التي أُعلن عنها في السنوات الأخيرة تفتقر إلى الدراسات المرورية الدقيقة التي تحدد حجم الكثافة السكانية واتجاهات السير المستقبلية”، مضيفاً أن “بعض الطرق تُنفذ بطريقة جزئية أو في مناطق محدودة دون ربطها بشبكة مرور متكاملة، مما يجعل تأثيرها محدودا جداً على تخفيف الازدحام”.
وأشار إلى أن غياب التنسيق بين الدوائر البلدية والمرورية ومجالس المحافظات يؤدي إلى تداخل المشاريع وتعطّل تنفيذها، حيث تُنفذ أعمال صيانة أو مد شبكات خدمية في نفس الطرق التي تم تعبيدها حديثاَ، مما يفاقم الاختناقات بدلاً من حلها.
وبين أن من بين الأسباب الأخرى “الافتقار إلى النقل الجماعي الحدي”، موضحاً أن “غياب منظومة النقل العام الفعالة مثل القطار المعلق أو المترو أو الحافلات السريعة يجعل الاعتماد شبه الكامل على السيارات الخاصة، وهو ما يزيد الضغط على شبكة الطرق الحالية”.
وأكد عبد الرزاق أن “بغداد بحاجة إلى خطة مرورية إستراتيجية طويلة الأمد تعتمد على التخطيط العلمي وإدارة المرور الذكية، وليس فقط على بناء جسور أو توسيع طرق هنا وهناك”، مشدداً على أن “الحلول الترقيعية لم تعد مجدية في مدينة تتوسع عمرانياً وسكانياً بوتيرة سريعة”.
وتابع بالقول إن “الحكومة تمتلك الإرادة لتنفيذ مشاريع خدمية مهمة، لكن نجاحها يتوقف على إدارة مهنية مستقلة وتخطيط واقعي مدروس، بعيدًا عن التأثيرات السياسية والقرارات الآنية”.
مشاريع “غير مدروسة”!
أكدت الأمينة العامة للحركة المدنية الوطنية، المهندسة شروق العبايجي، أن بغداد تشهد ازدحامات خانقة في مختلف مناطقها، رغم مرور سنتين على الإعلان عن مشاريع فك الاختناقات وبناء عدد كبير من الجسور.
وقالت العبايجي لـ (المدى)، إن “كل هذه المشاريع لم تكن مدروسة بشكل صحيح، ولم تحقق الغرض المرجو منها بسبب الاستعجال وعدم اتباع منهجية علمية دقيقة في اختيار المشاريع. بناء الجسور هنا وهناك تم بشكل اعتباطي، وفق مواصفات سيئة جداً من الناحية الهندسية، وشوهت معالم المدينة دون أن تسهم في حل مشكلة الاختناقات المرورية”.
وأضافت أن «هناك حلولاً متعددة لمعالجة الازدحامات والاختناقات، تختلف عن المشاريع الحالية، لكنها غالباً لا تُنفذ لأنها لا تسمح للفاسدين بالاستفادة من الأموال الطائلة المصروفة في مشاريع فك الاختناقات. وأوضحت العبايجي أن هذه الحلول بسيطة ومنطقية، وتعتمد على أساسيات التخطيط العمراني والحضري والهندسي لمدينة بغداد، لكنها تُهمل لصالح مشاريع غير مدروسة تفتقر لأبسط المعايير الصحيحة».
وشددت العبايجي على «أن التخطيط العشوائي لم يقتصر على بناء الجسور فحسب، بل أثر سلباً على معالم المدينة وجودة البنية التحتية، مؤكدة أن النهج الحالي لن يسهم في حل مشاكل المرور في بغداد على المدى الطويل».
وأوضحت كذلك “أن تطبيق المعايير العلمية والمنهجية في التخطيط العمراني والطرق يمكن أن يقدم حلولاً مستدامة لأزمة الاختناقات، بعيداً عن المشاريع المؤقتة والعشوائية التي لم تحقق أي نتائج ملموسة حتى الآن».
فساد “متفق عليه”!
من جانبه، انتقد المحلل السياسي محمد زنكنة بشدة واقع مشاريع البنى التحتية في العراق، ولا سيما في العاصمة بغداد، مؤكداً «أن الفساد المالي والإداري والهيمنة السياسية هما السبب الرئيس وراء تعثر أغلب المشاريع الخدمية، من جسور وطرق ومجسرات، إلى جانب تعطل مشاريع النقل الكبرى مثل القطار المعلق وشبكات السكك الحديدية».
وأوضح زنكنة في حديثه لـ(المدى)، «أن ملف الإعمار في العراق لا يعاني فقط من الفساد، بل من “فساد منظم ومتفق عليه”، يتمثل في تنفيذ جزء بسيط جداً من المشاريع المتعاقد عليها وترك الجزء الأكبر دون إنجاز، مشيراً إلى أن العديد من المشاريع «الراقية» لا تزال مهملة ومتروكة في أماكنها دون أي متابعة حقيقية من قبل الجهات الحكومية».
وأضاف «أن بعض الميليشيات تسعى إلى استثمار الملف إعلامياً، عبر تسليط الضوء على مشاريع محددة لرفع شعبيتها السياسية، أو تشويه صورة الحكومة الحالية»، مبيناً «أن رئيس الوزراء يواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع هذا الملف المعقد، بسبب تغلغل النفوذ الحزبي والميليشياوي داخل مؤسسات الدولة».
وتحدث زنكنة عن مشروع القطار المعلق في بغداد، مبيناً أنه “ما زال حبر على ورق رغم الوعود المتكررة بتنفيذه”، كما أشار إلى تعثر مشاريع ربط العاصمة بالمحافظات والمدن القريبة، وكذلك مشاريع الربط الداخلي بين أقضية ونواحي بغداد، حيث يتم تنفيذ بعضها “بشكل محدود جدًا” بينما تُترك مشاريع أخرى للنسيان”
كما أشار إلى «أن سكك الحديد العراقية تعاني إهمال خطير، إذ تخرج القطارات أحياناً عن مسارها بسبب تآكل البنى التحتية، بل تُستغل بعض خطوط السكك من قبل المركبات والعجلات المدنية للسير عليها نتيجة غياب التنظيم والتخطيط المروري السليم».
وبين زنكنة أن كل هذه المشكلات تعكس انشغال الحكومة بتغطية الفساد المستشري داخل مؤسساتها، بدلًا من مكافحته، مشيرا إلى أن بعض الجهات تعمل على تلميع صورة الحكومة استعدادا للانتخابات البرلمانية المقبلة، من خلال مشاريع دعائية أو ترقيعية لا تلامس حاجات المواطنين الحقيقية.
وأضاف: أن ازدحام بغداد المزمن واختناقاتها المرورية دليل واضح على سوء التخطيط وضعف التنفيذ، معتبرا أن ما يُنفّذ اليوم من مشاريع لا يرقى إلى مستوى طموح المواطنين، ولا يتناسب مع حجم الميزانيات الانفجارية التي تُرصد سنوياً.
وختم حديثه قائلا: إن تحكم الميليشيات بالقرار الاقتصادي، والفساد السياسي، واستخدام المال العام في الدعاية الانتخابية، كلها عوامل أساسية تعطل التنمية الحقيقية وتمنع ظهور مشاريع عمرانية متكاملة على أرض الواقع.
اختناقات بغداد تعود بقوة .. مشاريع وهمية وفساد منظم يخنقان العاصمة
غياب التخطيط وسوء الإدارة يشلان الشوارع

نشر في: 15 أكتوبر, 2025: 01:33 ص









