جورج منصور
مع اقتراب موعد الانتخابات العراقية المقرر إجراؤها في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2025، يعود إلى الواجهة الجدل القديم- الجديد حول موقع القوى المدنية والمستقلين في المشهد السياسي، وقدرتهم هذه المرة على اختراق جدار المحاصصة والطائفية الذي حكم العراق منذ عام 2003. ويبرز السؤال الأكثر إلحاحاً: هل ستعبّر صناديق الاقتراع عن إرادة الناخب الحقيقية، أم أن المال والسلاح سيظلان اللاعبين الحاسمين في تقرير النتائج؟.
على الرغم من التحولات الكبيرة التي شهدها الشارع العراقي منذ احتجاجات تشرين 2019، لايزال الطريق نحو تمثيل مدني فاعل في البرلمان محفوفاً بالعقبات القانونية والمالية والتنظيمية. فالتجارب السابقة كشفت أن التشتت كان أبرز نقاط ضعف هذه القوى، لذا تتركز الجهود اليوم الآن على توحيد الصف المدني ضمن خطاب موحد يقوم على مكافحة الفساد وإعادة بناء الدولة على أسس المواطنة والكفاءة.
ويلاحظ مراقبون أن بعض القيادات الشبابية من حراك تشرين تحاول خلق مساحة وسطية بين النظام القائم وقوى التغيير الجذرية، وهو ما قد يمنحها قاعدة انتخابية جديدة بين فئات الطبقة الوسطى والناخبين المترددين.وتعمل تحالفات مثل “تحالف البديل” على استعادة الثقة من الناخب. هذه التحالفات قد لا تُطيح بالمنظومة بأكملها، لكنها قادرة على إحداث شرخ وتمثيل أكبرللشرائح التي ظلت مهمشة.
في هذا السياق، يبرز دور المال والسلاح كعاملين حاسمين. فالمال يشتري ولاءات أصحاب السلاح ويموّل أنشطة الفصائل لتعزيز نفوذها، فيما يمنح السلاح ثُقلاً ميدانياً للتأثير على النتائج. وفي المناطق التي تضعف فيها الدولة أو تغيب مؤسساتها الأمنية، يزداد تداخل السلطات الأمنية والمحلية مع النفوذ السياسي- المالي، مما يرفع من احتمالات تزوير الإرادة الشعبية.
ومن المرجح أن يكون للمال السياسي تأثير أكبر من السابق، لاسيما مع اشتداد المنافسة وتضخم القوائم الانتخابية. كما قد تلعب الفصائل المسلحة دوراً مفاوضاً أو منافساً عبر قوائمها الخاصة أو من خلال النفوذ على الناخبين المحليين. و”السلاح المنفلت” قد لا يؤدي إلى إلغاء الانتخابات أو تأجيلها، لكنه قادرعلى تقييد الحريات في بعض المناطق، وخنق المشاركة، وفرض نتائج محلية غير نزيهة.
ويتفاوت تأثير هذه العوامل جغرافياً: فالمال السياسي سيكون الأكثر حضوراً في الأنبار ونينوى وبغداد، بينما سيكون السلاح الأشد تأثيراً في البصرة وبغداد ونينوى. أما إقليم كردستان فله وضعه الخاص. حيثالسلاح مُمأسس ضمن أحزاب مهيمنة، والمال موزع بين الحزبين الكبيرين. وفرص التغيير هنا ضعيفة ومشروطة بارتفاع نسبة المشاركة الشعبية ودعم المستقلين بتحالفات قوية.
التأثير الإقليمي: إيران والنفوذ المتشعب
يظل تأثير إيران والدول الإقليمية على الانتخابات موضوعاً معقداً ومتعدد الأوجه. فإيران تمتلك نفوذاً كبيراً على العديد من الفصائل التي تحولت إلى كيانات سياسية، وتستخدمها لتعبئة الأصوات وتقديم الدعم اللوجستي والأمني للمرشحين الموالين. كما تقدم تمويلاً مباشراً وغير مباشر يمنح حلفاؤها تفوقاً في الحملات الإعلانية وتنظيم الحشود.
ولا تتوقف أدوات التأثير عند هذا الحد، فإيران تستخدم ورقة الاستثمارات والتجارة والاتفاقيات الاقتصادية ( مثل استيراد الكهرباء والغاز) كوسيلة ضغط غير مباشرة على الحكومة العراقية.وتقوم بإجراء اتصالات مكثفة لتشكيل تحالفات ما بعد الانتخابات تضمن استمرار نفوذها، بل وتلعب دور الوسيط في حل الخلافات بين الكتل الشيعية المتنافسة لضمان عدم تفتيت الصف.كما تمتلك قنوات اتصال مع بعض المراجع الدينية في النجف، وقدرة على التأثير في الرأي العام عبر الحورات العلمية والمراكز الثقافية.
مقابل النفوذ الإيراني: استراتيجيات متنافسة
في المقابل، تتبع السعودية استراتيجية تركز على تعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية مع العراق لبناء مصالح مشتركة وتحالفات طويلة الأمد. وتدعم الرياض الكتل والقيادات السنية المعتدلة لتعزيز استقرار المناطق السنية ومواجهة النفوذ الإيراني، كما تسعى لفتح قنوات اتصال مع أطراف شيعية غير مرتبطة بإيران مباشرة.
أما تركيا، فتمتلك نفوذاً كبيراً في المناطق الكردية من خلال علاقاتها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني،وتستخدم الورقة الأمنية ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق كوسيلة للضغط السياسي. كما أن حجم استثماراتها في إقليم كردستان، يمنحها ورقة ضغط مهمة.
هكذا، ستشهد الانتخابات القادمة استمرار التنافس بين محور إيران من جهة، ومحور السعودية وتركيا من جهة أخرى. وستتحاشى الدول الخارجية التدخل المباشر والصارخ، وستعمل أكثر عبر القنوات الاقتصادية والدبلوماسية والعلاقات مع مجموعة متنوعة من الأطراف.
هل التغيير ممكن؟
في ظل هذه المعادلات المعقدة، يشعر كثير من العراقيين باليأس من إمكانية التغيير عبر صناديق الاقتراع. فالأحزاب الكبرى لا تتنافس بالأفكار أو البرامج، بل بحقائب المال التي تُفتح بسخاء لشراء الولاءات. من بغداد إلى الموصل، تنتشر «الهدايا الانتخابية» من وظائف وعقود وأجهزة منزلية ونقود، وكأنها صدقات، فيما هي في الحقيقة ثمن لصوت المواطن. هذه ليست ديمقراطية، بل سوق مساومة سياسية.
ومع ذلك، لا يعني هذا أن التغيير مستحيل. فهناك مؤشرات إيجابية؛ فالمكون الشيعي لم يعد كتلة صماء، بل يشهد تنافساً شرساً بين كتل موالية لإيران بشدة وكتل تقليدية وكتل ذات توجه وطني. كما أن تيارات مثل تحالف “امتداد” الذي يمثل استمراراً للحراك الاحتجاجي، ترفض الهيمنة الإيرانية وتتبنى خطاباً وطنياً، ولديها شعبية بين الشباب.
لذا، ستعتمد الانتخابات المقبلة على قدرة الكتل على معالجة هموم الناخب العراقي المتمثلة في الفساد والخدمات والبطالة. وستتوقف نتائجها على مدى قدرة القوى الناشئة على تحفيز الناخب للمشاركة، وعلى شفافية العملية الانتخابية، وعلى تقديم تلك القوى لرؤية واضحة ومقنعة.
خلاصة مصيرية
تبدو القوى المدنية والمستقلة في العراق اليوم أمام خيار مصيري؛ فهي تحمل إرثاً أخلاقياً وشعبياً من احتجاجات تشرين، لكنها تواجه نظاماً انتخابياً (كقانون سانت ليغو المعدل) مصمماً لحماية الطبقة السياسية القائمة.
الانتخابات المقبلة تقف على مفترق طرق: إما أن تكون خطوة نحو ترسيخ الديمقراطية، أو تتحول إلى مسرح لإعادة تدوير الوجوه نفسها تحت ضغط المال وسطوة السلاح. وبين هذين الخيارين، يبقى صوت الناخب العراقي، إن تحرر من الخوف والإغراء، هو الرهان الأكبر لإنقاذ التجربة الديمقراطية من المصادرة.
فالانتخابات القادمة، كما يصفها بعض المراقبين، ليست مجرد تنافس على المقاعد، بل معركة بين منطق الدولة المدنية ومنطق الدولة الغنيمية، وهي معركة لم تُحسم بعد.










