علاء المفرجي
لطالما شكّلت السيرة الذاتية مصدراً غنيّاً للفنون، ولا سيما السينما، حيث يحاول بعض المخرجين أن يحكوا تجاربهم الشخصية بأشكالٍ تفوق الحكاية المجرّدة، لتصبح أفلامهم مراياً تنعكس فيها الذكريات والأحاسيس والتحديات. في هذا المقال نلقي الضوء على عددٍ من هؤلاء المبدعين، وكيف وظّفوا أفلامهم لنقل حياتهم الذاتية، مع استكشاف الجدل بين ما هو "حقيقي" و"مُعاد بناءه".
ويعود سبب اهتمام المخرجين بتوثيق حياتهم الذاتية في أفلامهم فهم يستخدمون السينما كوسيلة لفهم ماضيهم، جذورهم، تجارب الطفولة أو العائلة، وما تراكم في نفوسهم من أحلام وآلام، كما أن السرد الذاتي يسمح للمخرج بأن يكون أكثر صدقاً مع الذات والجمهور، أو أن يحاول أن يكون كذلك، فيعرض وجهة نظره الشخصية، ليس فقط كراوٍ بل كمشارك. توثيق الذات هنا يعني ترجمة حرفية لما حدث، بل إعادة تشكيله عبر الذاكرة، الخيال، الرمزية، التصوير، والأسلوب البصري ليترجم تجربة داخلية وليس مجرد وثيقة.
الأمثلة كثيرة بهذا الإتجاه في السينما، ففي (عائلة فابلمان) يتحدث ستيفن سبيلبرغ عن علاقة الطفولة والعائلة المفككة، وتنشئة الطفل الذي يجد في الأفلام وسيلة لفهم العالم من حوله. الفيلم يُعدّ مذكِّرة سينمائية لسيرة راهنّة تحمل التحديات العائلية والحلم الفني.
وفي (حياة سابقة) تقدم سيلين سونغ قصة تحمل الكثير من الواقعيّة في تفاصيل الإزاحة والتلاقي بين ثقافات مختلفة، وهي مستوحاة من تجربتها الشخصية، مع شخصية تشبهها في التنشئة والانفتاح على الحنين والاغتراب.
وفي (رقصة الواقع) يقدم أليخاندرو جودوروفسكي، وهو من المخرجين الذين قسموا رواية سيرتهم إلى مراحل: الطفولة، الشباب، تجارب العائلة المحافظّة، والبحث عن التحرر الإبداعي. وفيلم (شعر لا ينتهي) يتناول شبابه في سانتياغو، محمَّلاً بالخيال، بالموسيقى، وبالتمرد الفني.
وفي فيلم ميخال بات آدم (سيرة ذاتية متخيلة) تقدم ادم مزيج من الذكريات، الخيال، والتصوير الذاتي، حيث يصوّر المخرجة شخصيتها بينما تُعدّ فيلماً عن حياتها، مع تداخل بين الواقع واللّـهُـم. الفيلم يُلقي ضوءاً على العلاقة مع الأهل، الهوية، والذاكرة.
وأثر هذه النوعية من الأفلام على الجمهور وصناعة السينما، أنها تُعزز من (التعاطف) بين المشاهد والمخرج، لأن المشاهد يرى إنساناً يعرض ذاته، يعترف بنقاط ضعفه، ما يجعله أقرب. وتفتح باب التأمل لدى الجمهور في حياته الخاصة: كيف نروي قصصنا: ماذا نتذكر، ماذا نهمل، وماذا نختار أن نظهر. ومن الناحية الصناعية، تساعد هذه الأفلام على تجديد الأسلوب السينمائي، إطلاق تجارب بصريّة وشكلية؛ وغالباً ما تُقبَل بمنظور نقدي عميق، لأنها لا تقدّم الترفيه فحسب، بل تساؤلاً وجودياً وفنياً.
إنَّ توثيق المخرج لحياته الذاتية في أفلامه ليس مجرد استعراض للأحداث، بل عملية إبداعية معقّدة تجمع بين الذكريات، الخيال، الحقيقة، والرغبة في الفهم والتعبير. بين الجرح، الحنين، والطموح، تُصبح هذه الأفلام سجلاً فنياً يُعرض فيه الإنسان بضعفه وكفاءته، بحقيقته والمُعاد بنائه، ليذكرنا أن السينما ليست فقط ما ننظر إليه على الشاشة، بل كيف ننظر لأنفسنا من خلالها.
رغم الجمال والقيمة الفنية، هناك عدة تحديات تواجه المخرج حين يوثّق سيرته الذاتية، منها ان الذاكرةْ قابلة للتغيير، فما نتذكره قد لا يكون ما حدث بالضبط، المخرج غالباً ما يعيد تشكيل الأحداث بما يتناسب مع الفكرة الفنية أو الدرامية. كما أن المخرج لا يكتفي بالتوثيق، بل يستخدم الأدوات السينمائية: تصوير، مونتاج، موسيقى، رمز، حتى تأويلات الأحلام. هذا يعطي العمل عمقاً، لكنه يثير التساؤل حول كمّ ‘الواقع’ الموجود فعلاً.









