حسن الجنابي
(2 من 3)
إن دولة مصب مثل العراق بحاجة إلى خيار إستراتيجي، يتجاوز السعي المألوف للتعاون الفني في حل المعضلات التشغيلية الناشئة عن نقص المياه الموسمي، أو في زحزحة الاختناقات المؤقتة والخلل بين العرض والطلب من حينٍ لآخر، بل هي بحاجة إلى ما يصطلح على تسميته منذ عدة سنوات بـ “دبلوماسية المياه” كآلية استراتيجية للحفاظ على المصالح المائية العليا للبلاد.
أجل، إن “دبلوماسية المياه” خيارٌ استراتيجي لمعالجة المعضلات، ولكنه ليس بالضرورة طريقاً مضموناً لحل التحديات والتناقضات البينية بصورة تلقائية أو مؤكدة. بل إن المسار يتطلب التغلب على التحديات الداخلية والعوائق التي تمنع اللجوء إلى تبنّي “دبلوماسية المياه” كمفهوم وكآلية، لحل الخلافات بشأن المياه العابرة للحدود. تنبع التحديات الداخلية من طبيعة المشهد السياسي الداخلي السائد، والقوى الفاعلة فيه، ومواقفها المتناقضة أحياناً، في مقاربة القضايا الكبرى، ولا تنتهي بالتحديات الإقليمية المرتبطة بالدينامية السياسية والأمنية، وترتيبات التوازن الإقليمي اقتصادياً وعسكرياً. فالمسار المائي المتعلق بالمياه المشتركة والعابرة للحدود غير منفصل عن مسار الأحداث التي تواجه المنطقة والمشكلات الأخرى العابرة للحدود كذلك، كالأمن والاقتصاد والإرهاب والحروب. وفي الواقع لا ينبغي للمسار المائي ان يكون منفصلاً عن شبكة العلاقات والمصالح الأخرى التي ترتبط بها دول المنبع والمصب، مع فارق هو ضرورة الحرص على إبقائه مساراً “بارداً” مقارنة بسخونة بعض المسارات الثنائية المتعلقة بالأمن او بمكافحة الإرهاب أو أي تطورات سياسية قد تكون مثيرة للخلافات في المواقف إزائها.
إن “دبلوماسية المياه” ليست خياراً سهلاً لصناعة الإنجازات في ظل اوضاع معقدة. بل هي، مثل أي عمل شائك، قابلة للنجاح إذا توفرت شروط النجاح وحسن النوايا لدى جميع الأطراف. ولا شك في أن هذا الأمر ينطبق على دولة المصب أكثر من دول المنبع، لأنها في موقع الخاسر الأكبر من اشتداد المنافسة على الموارد المائية المشتركة، بسبب الموقع الجغرافي، والعراق نموذج لذلك. ولا شك في أن العراق، مثل الدول المجاورة الأخرى، بحاجة إلى الحكمة والقدرات الدبلوماسية القادرة على منع الانزلاق نحو الصراع والكراهية بسبب المياه المشتركة، لتحويل المياه الى عامل محفّز للتعاون وبناء السلم والاستقرار.
إن السعي إلى ترسيخ مفهوم “دبلوماسية المياه” كمقاربة ساعية إلى الارتقاء النوعي بمعالجة تحديات المياه العابرة للحدود هو خيارٌ حكيم وواجب وطني، يهدف للحد من التنافسية المثيرة للقلق وعدم الاستقرار، وباتجاه تعزيز الفهم المشترك لمضار أو منافع استغلال المياه بهذه الطريقة أو تلك لتحقيق تنمية الموارد المائية واستخداماتها بصورة مستدامة.
يفترض، بالطبع، أن تكون وزارة الخارجية العراقية مؤهلة تأهيلاً كاملاً للقيام بهذا الدور الذي هو في صلب وظائفها السيادية. فلدى الوزارة قسم خاص يسمى “ قسم المياه والحدود”. ومن سوء الحظ، أو سوء الإدارة، ان هذا القسم المختص تنقّل في الوزارة بين الدائرة القانونية ودائرة الدول المجاورة، ويبدو أنه استقرّ مؤخراً في الدائرة القانونية دون مسّوغ عملي، باعتقادي. أدى ذلك إلى حصول بعض الاختلافات بين الدائرتين حول الأمر، وقد ساهم ذلك في ضعف تناول هذا الموضوع الخطير من قبل وزارة الخارجية عموماً. فمعروف بأن نَقْل القسم من دائرة إلى أخرى، لا يعني نقل المعرفة المتراكمة والأفراد بل نقل الملفات الورقية إلى مجموعة أخرى من الموظفين في دائرة أخرى. ومعروف أيضاً أن موظفي الخارجية ينقلون بين مدة وأخرى من المركز إلى البعثات الدبلوماسية في الخارج، ومنهم أعضاء ذلك القسم أو أي قسم مختص آخر، فتتشتت المعرفة ويتلاشى الموقف الواضح. ومن مؤشرات التشتت والفوضى في هذا الملف هو إنشاء أحد وكلاء الوزارة في عام 2019 قسماً خاصاً للمياه في مكتبه أيضاً دون أي مبررات معقولة، فتشعب الأمر أكثر، مما زاد في غموض الموقف الوطني العراقي، بل وانعدامه، بشأن المياه.
أما الأمر المثير في هذا فهو الدور الذي تلعبه وزارة الموارد المائية خارجياً. فهذه الوزارة العريقة مسؤولة عن إدارة الملف المائي داخلياً، وكل ما يتعلق بالجوانب الفنية لإدارة المياه الخام، من تخزين وتوزيعات ومنشآت واستصلاح وما شاكل. لكن الفوضى والعشوائية والتحاصص، حوّل الملف المائي إلى مساحة للتنافس مع وزارة الخارجية. تزامن التنافس بين الوزارتين مع تراجع اهتمام الخارجية بالملف، فبرز دور خارجي مبالغٌ فيه لوزارة الموارد المائية. وبما أن الأخيرة هي وزارة فنية تفتقر، بحكم الاختصاص، إلى مهارات التفاوض، وتنعدم لديها قدرات الربط الاستراتيجي للملفات البينية الشائكة مع الجوار الجغرافي، بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها، فقد صار الملف المائي الخارجي عبئاً عليها، وليس “نعمة” في الصلاحيات والامتيازات والأدوار. تسبب الأمر أيضاً بسوء التفاهم بين وزارة الخارجية ووزارة الموارد المائية في الكثير من مفاصل الموضوع. وفي أقصى درجات النجاح على المستوى الفني هو استمرار زيارات الوفود العراقية إلى تركيا التي تبحث عموماً بالتعاون الفني وزيادة الإطلاقات وما شاكل ذلك من قضايا ذات طابع تشغيلي وموسمي وليس إستراتيجياً. ولا شك في أن الزيارة الأخيرة قبل أيام لوفد عالي المستوى برئاسة السيد فؤاد حسين وزير الخارجية وعضوية السيد وزير الموارد المائية هي خطوة هامة باتجاه تفعيل دور الخارجية في تحريك الملف المائي مع الجوار.
أما مع الطرف الإيراني فكانت الزيارات نادرة بسبب تعقيدات العلاقة مع إيران تاريخياً، وانعدام الاستجابة من قبل الحكومات الإيرانية للتعاطي مع الملف. هذا فضلاً عن “عقدة” اتفاقية الجزائر 1975 بين العراق وإيران بكل تعقيداتها، وكثافة النفوذ الإيراني في العراق، وخاصة على المستويات العليا في الحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003، والذي جعل القادة العراقيين يتجنبون، في غالب الأحيان، المواجهة الدبلوماسية الصريحة مع السلطات الإيرانية في هذا الميدان الحيوي. وهنا فالعراق بحاجة إلى مقاربة مختلفة تماماً تستند إلى أرضية وطنية صلبة تضمن أمرين أساسيين وهما: حماية المصلحة الوطنية وسيادة العراق وحقوقه المائية دون انتقاص، وكذلك الحفاظ على العلاقة المتميزة بين البلدين مهما كانت شائكة ومثقلة بأحداث فاجعة ومواجهات وأحزان.
-يتبع-











جميع التعليقات 1
وليد ااحيالي
منذ 2 شهور
تحديات السيادة ودبلوماسية المياه في العراق تعقيب وتحليل على مقالة الدكتور حسن الجنابي: “تحديات السيادة ودور الخارجية في عصر الشحة” (الجزء الثاني) بقلم: البروفيسور وليد الحيالي في مقالةٍ فكرية عميقة نُشرت في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2025، قدّم الدكتور حسن