TOP

جريدة المدى > عام > كريم كطافة: أستطيع القول إن تجربة الأنصار خلقتني من جديد

كريم كطافة: أستطيع القول إن تجربة الأنصار خلقتني من جديد

يرى أن الرواية ما هي إلا محاكاة لأخطر قضية وجودية شائكة في وعي الإنسان

نشر في: 21 أكتوبر, 2025: 12:01 ص

حاوره/ علاء المفرجي

الروائي والقاص كريم كطافة، من منواليد بعداد عام 1961 ، مارس العمل الصحفي وكتب النقد الأدبي والعديد من الأعمال القصصية والروائية . غادر العراق نهاية السبعينيات، ليلتحق بصفوف حركة الأنصار في كردستان العراق، يقيم حاليا في هولندا،من أعماله: ليالي ابن زوال» صدرت عام2007 حمار وثلاث جمهوريات» صدرت عام 2008 حصار العنكبوت» ، ، قرابين الظهيرة»
إضافة إلى الكتابة الروائية والقصصية ، كتب سيناريو فيلم (نصيرات) عن تجربة النساء المقاتلات في وحدات أنصار الحزب الشيوعي العراقي.
في هذا الحوار يتخدث عن تجربتة في الكتابة وتاثير حياته السياسية وانضمامه الى حركة الانصار على مجمل اعماله القصصية والروائية .
نبدأ من حيث النشأة الأولى والطفولة، هل تحدثنا عن المصادر والمراجع (حيوات، أحداث، شخصيات) التي أسهمت في ميلك للكتابة، وكتابة الرواية تحديدا؟
- أظن أن القراءة المنوعة ساهمت بدفعي إلى الكتابة. كنت اقرأ كل ما يصل إلى يدي بلا نظام، وانبهر بالصياغات الذكية والمركزة على الأخص في الروايات، أعيد قراءة تلك الجمل والفقرات مرات، وأندهش لقوة اللغة في البوح والاختزال، أجد في الجملة الواحدة على قصرها طبقات من الدلالة والإيحاء. بالطبع هذا يخص الكتب الجيدة. وبدون تخطيط كنت أمرّن ذائقتي على عدم قبول الضحل والسطحي من الكتب. الأمر الذي جعلني لاحقاً اتعامل مع ما أكتبه بذات الطريقة، إعادة القراءة والتشذيب المتكرر قبل أن احصل على الانبهار ذاته في الصياغة.
أما لماذا الرواية تحديداً، برغم أني كتبت القصة القصيرة وغيرها من أشكال الكتابة عدا الشعر، فلأني أحببت الرواية عن سائر أشكال التعبير. لاحقاً وبعد سنين طويلة، سأفهم أن الرواية ما هي إلا محاكاة لأخطر قضية وجودية شائكة في وعي الإنسان، قضية الخلق أو قضية الإله الذي يخلق ويرسل التعاليم والوصايا والتهديد والوعيد لمخلوقاته وفق الميثولوجيات الدينية، لكنه برغم هذا لا يتدخل خلال حياة مخلوقاته، يترك الأمر إلى ما بعد الموت، أي إلى حين انتهاء الرواية الفردية لكل مخلوق. هذا أمر مذهل! عرفته لنفسي أنه (الخلق مع الحرية). أحببت هذا الخالق.
غادرت قسريا الى حيث المهجر، أكثر من خمسين عاما، وأعتقد أن نتاجك المطبوع ظهر خلال هذه الفترة، هل بلورت سنوات المنفى حصيلة نتاجك هذا؟ والى أي مدى أثرت هذه السنوات عليك ككاتب؟ وبأي أتجاه؟
- صحيح، كانت المغادرة شبه مستحيلة لجندي في ظروف الحرب العراقية الإيرانية 1982، كان عمري حينذاك 21 سنة، لكنها حصلت. لم تدم رفاهية الانعتاق من الموت، إذ بعد سنة وبضعة أشهر، حلّت محلها كآبة وحزن ورغبة عارمة للعودة، برغم أني حينها عملت بحاراً على باخرة يونانية، كانت بمثابة رحلة سياحية، كل بضعة أيام في بلد. يقولون (اللي بيك ما يخليك)! عدت إلى الوطن، إلى الحرب من جديد، إنما عبر بوابة مختلفة، إذ شاركت بتجربة الكفاح المسلح للحزب الشيوعي العراقي ضد نظام صدام حسين الذي أوغل بدمائنا. كنت عضواً في الحزب.
المنفى لغير الباحثين عن أرزاق ومشاريع تجارية لا تعدو كونها موتاً بطيئاً للإنسان. بعد خمس سنين من المشاركة في الحرب، ومرة أخرى الرحيل الإجباري بفعل تداعيات الحرب وتحولها إلى إبادة جماعية ليس للمقاتلين فقط وإنما للفلاحين، إذ دخل السلاح الكيمياوي هذه المرة. توزعتنا المنافي من جديد.
أما عن تأثير المنفى على الكتابة، أقول؛ وفّر لي المنفى على صعيدي الشخصي، ثلاث مزايا بغاية الأهمية؛ ما كنت أحصل عليها داخل الوطن؛ الأولى أني أكتب دون أن اتحسس رأسي في كل مرة هل ما زال على كتفي، والثانية؛ وجدتني أكتب عن ماض بيني وبينه مسافة، وأنظر إليه من زوايا متعددة بعيداً عن الانفعال الآني المباشر. أما الثالثة؛ لقد وفّر لي المنفى إمكانية العيش دون أن أجعل من الكتابة حرفة ارتزاق. أكتب بلا إملاءات والتزامات لهذا المالك أو ذاك من مالكي الصحف والمجلات، ناهيك عن إملاءات حواشي الأنظمة السياسية. حتى الحزب الذي ناضلت في صفوفه، انسحبت منه! لأنسجم مع رؤيتي للكتابة (الكتابة مع الحرية).
انت من محترفي الكتابة الذين أسهموا بشكل وبآخر في التجربة الأنصارية، في كردستان. هل كان لهذه التجربة إسهام مباشر في إدراكك حرفة الكتابة؟
- أستطيع القول أن هذه التجربة خلقتني من جديد! لم يكن لي قبلها هاجس أن أكتب. كانت تجربة حياتية قاسية. عشت خلالها حياة برية (بوهيمية)، نحن والطبيعة وجه لوجه بلا أية وسائط من صنع الإنسان. كان الطبيعة هي المعلم الأول القاسي وغير المتهاون. علمتنا كيف نروض أنفسنا لتقلبات أمزجتها، أن نحتمل زمهرير شتاءها ونتعلم كيف نحفر في جسد الثلج بؤراً نشعل فيها ناراً.. كما علمتنا على احتمال السير لساعات طوال في قيظ الصيف حتى تكاد الأجساد تنشف من نضيح سوائلها ونحن نطوي تضاريس قمم ووديان ونتخذ في كثير من الحالات طرقاً غير مطروقة حتى من قبل سكان الجبال.. علمتني ماذا يعني الموت، ماذا يعني الخوف.. ماذا يعني أن تستغني عن النقود.. لم يعد للنقود من جبروت علينا.. وحين يستغني الإنسان عن النقود يعود إلى هيئته البكر كما أراده الله في أيام الخلق الأولى. كنا نستحصل قوتنا من الطبيعة أو من فلاحي الجبل الذين يشبهوننا. خرجت من التجربة بحصيلة من الكثافة كما لو أني عشت دهراً لا مجرد خمس سنين. صرت معها أشعر بدبيب لغة أخرى تسري تحت الجلد في عروقي وتريد البوح. حتى وجدتني بعد (سفر الخروج) إلى الشتات، أكتب بلا نظام وبلا هدف، كذلك العبراني في ريف العمارة (عزرا) الذي كتب بعد السبي ديناً خاصاً له ولقبيلته. كنت أكتب لنفسي. لاحقاً سأعلم أني أكتب في أجناس عديدة، وأحياناً مختلطة وداخلة في بعضها.
الا تعتقد أن هذه التجربة، واقصد تجربة الأنصار لم تنل حضها في التوثيق، لا كتابة ولا تصويرا؟ الم تضع اجتماعاتكم الدورية خارطة طريق لذلك، خاصة مع أهمية هذا الأمر في تاريخ العراق المعاصر؟ ولأكن أكثر قسوة وأسألك ما الذي تبقى من تجربة الأنصار.؟
- أبدأ من حيث انتهيت في سؤالك. لم يبق من التجربة اليوم شيئاً، أكثر من كونها ذكريات جميلة وقاسية في أذهان من خاضوها. صارت جزءاً من تاريخ عراقي هو الآخر ملتبس والانعطافات فيه حادة وسريعة الحدوث. لم توجد خارطة طريق للتوثيق. اعتمدنا المبادرات الفردية في معظمها غير احترافية. شكل من التنفيس واستذكار من فارقونا في تلك السنين (الشهداء). تجدها منشورة على الصفحات الشخصية للأنصار.
كما كان هناك كتّاب محترفون، سواء كانوا محترفين قبل التجربة أو أن التجربة صقلت مهارتهم، هؤلاء أنتجوا روايات وسيّر وكتب تصب في باب التوثيق وإن كانت مكتوبة لأغراض فنية- أدبية، كذلك فنانوا فوتوغراف وسينما أنتجوا بطرقهم الفنية ما يفيد عملية التوثيق. أذكر من هؤلاء: زهير الجزائري، سلام إبراهيم، عامر حسين، فيصل الفؤادي، سعيد شابو، علي محمد، صباح كنجي، كريم كطافة، وفي باب الفن المخرج علي رفيق؛ أنجز فيلمين عن التجربة، والفنان كفاح الأمين أنجز مجلد مصور كبير عن الشهداء.
كيف ترى العلاقة بين الواقع التاريخي (واعني هنا التجربة التي خضتموها مع الأنصار) وبين التخييل الروائي في الرواية؟ أيهما توخّيت توثيقه أكثر، وأين مارست الحرية الإبداعية؟ .
- يقولون في علم الطب أن 95% من المعلومات التي تدخل أجسامنا تذهب مباشرة إلى منطقة اللاوعي في الدماغ. ولو تحريت الأدب وعموم الفنون تجدها تمتح من هذه المنطقة. استعير هنا حيرة المترجم (جوناثان رايت) الذي ترجم رواية (حصار العنكبوت) إلى الإنكليزية وهو يكتب إلى دار النشر ملخصاً عن الرواية، جاء في ملخصه المقطع التالي الذي عبّر عن حيرته: I›ve been calling it a fictionalized memoir. If that isn›t a category it should be. “ “كنتُ أدعوها مذكراتٍ خيالية. إن لم تكن هذه فئةً، فهي تستحق أن تكون”. تخيل التضاد في المصطلح (مذكرات خيالية)! هذا، بالرغم من أن موضوعها كان حرباً لها زمان ومكان معلومان وشخصيات من لحم ودم.
نعود الى نتاجك السردي، في «حصار العنكبوت» ملامح واضحة لكتابة السيرة الذاتية، واعتقد أن ذلك واضحا في قرابين الظهيرة، وإن كانت سيرة للآخر؟
- كنت اسعى في كل أعمالي أن لا أجعلها سيرة ذاتية، أولاً للابتعاد عن فخ (الأنوية) التي أجدها متفشية في كتابات غيري، ولإدراكي أني حين أحول الشخصيات الواقعية إلى شخصيات روائية ستفقد لا محالة الكثير من واقعيتها، هذا برغم أن الكاتب ومهما حاول الابتعاد عن تجربته الشخصية، سيجدها مبثوثة بين السطور وإن كان يكتب عن الكائنات الفضائية! على سبيل المثال في رواية (حصار العنكبوت) كان هناك أكثر من 150 شخصية! ماذا أفعل مع هذا الكم؟ فلجأت إلى تقنية توزيع ومزج الملامح للشخصيات الحقيقية، وحتى أنا الشاهد المشارك وزعت ملامحي وتفاصيل عملي على عديد من الشخصيات. كذلك سعيت إلى جعل السرد متعدد الاجنحة؛ هناك السرد الروائي، السرد السينمائي، السرد الصحفي، سرد اليوميات، كل هذا لأجعل الرؤية متعددة وقادرة على الدخول إلى أعماق الإنسان المحاصر بالموت. هذا لا يجعلها سيرة ذاتية.
أما رواية (قرابين الظهيرة) فكما قلت أنت؛ كانت سيرة الآخر. هناك ست شخصيات رئيسية تناوبت على السرد لم تربطني بها أية رابطة شخصية، عبود المطيرجي، الملحن رمزي العواد، المعلم ايشو، شيخ الجامع شيخ صابر، سيد خلف، زائداً الجلاد شرهان، ناهيك أن لا علاقة لي بسجن الحاكمية للمخابرات، لم أسجن في أي يوم من حياتي، لم أجرب العذاب الذي قاساه السجناء، لم أجرب ماذا يعني أن يقف الإنسان بالدور منتظراً موته، لم أجرب ماذا يكون شعور الإنسان حين يحولونه إلى ما يشبه البهيمة تزحف على الأرض وتلتقط غذائها بفمها لأن أطرافه لم تعد صالحة للاستخدام وكثير غير هذا من المشاعر التي لم اجربها. وكم كنت سعيداً بما قاله أحد السجناء من الذين قرأوا الرواية وكان قد قاسى كل ما ذكرته في الرواية «كأنك كنت معنا»!
الموت كحقيقة وحيدة يفرض نفسه في أغلب ما كتبت، وقلت مرة «بالنسبة لي، وفي أكثر من محطة اقتربت كثيراً من الموت». هل كان هو القدر الوحيد في حياتك واعني في النضال ضد الديكتاتورية؟
الموت بالنسبة للجندي في الحرب ولمقاتل حرب العصابات غير الإنسان العادي البعيد عن الحروب، هو الحقيقة الوحيدة التي يتداولها خياله ربما في كل لحظة. لكن العجيب أنه وبرغم تجسده الماثل أمامه، ينساه. وإلا كيف نفهم اندفاع الجندي خلال المعركة في ساحة مطرزة بالموت يركض كالمسرنم، أو كيف تصف مشاعر شخص تجاه الموت وهو يجد بعد انتهاء المعركة أن صلية رشاش بي كي سي قد اخترقت أحد مخازن الرصاص المربوطة على خصره دون أن يحس بها؟ كم كانت المسافة بين المخزن المخترق والخصر؟ يبدو لي احياناً أن النسيان فضيلة عظيمة للإنسان. وبالنسبة للعراقي هناك حقيقة استثنائية تفرد بها نظام هذا البلد، (نظام البعث)، ألا وهي نجاحه منقطع النظير في جعل شعبه يؤمن حقيقة أن للجدران آذان، وأن لا ثقة في إمكانية الوشاية بين الأب والابن والزوج والزوجة والأخ والأخ أو الأخت، لكن وبرغم هذه الحقائق، تجد عراقيين كثيرين قد ناضلوا ضد هذا النظام بأشكال مختلفة، تبدأ من أضعف الإيمان مجرد الهمس بين صديقين غاضبين مما يحصل، مروراً بالعمل الحزبي السري داخل المدن والبلدات وهؤلاء حقيقة كانوا فدائيين، وصولاً إلى أقوى الإيمان «المقاومة المسلحة». مرة أخرى أنها فضيلة النسيان.
ماذا عن (السخرية) أو لنقل الكوميديا السوداء في بعض ما كتبت؟
- السخرية هنا معادل موضوعي للألم، لهذا تجد العراقيين أوجدوا لسخريتهم لوناً، كما قلت في سؤالك (الكوميديا السوداء) لتمييزها ربما عن السخرية البيضاء الخفيفة المنتشرة بين بقية الشعوب. سخرية العراقيين بطبقات من الضحك والحزن. استخدمتها في كتابي الثاني (حمار وثلاث جمهوريات)، كذلك (السخرية) متفشية في كل كتبي. هذا برغم أني على الصعيد الشخصي كائن غير ساخر، تجدني في جلسات الأصدقاء مستمعاً أكثر مني صانعاً للنكتة، مستهلك لا صانع.
استطيع أن أقول أن (حصار العنكبوت) سيناريو مقنع بسرد الروائي، فأنا أقرأ الرواية، وكأني أمام سيناريو بكل عناصره السينمائية. في تحليلات الرواية استخدمت تقنيات شبيهة بالسيناريو الفني، مثل تنويع زوايا الكاميرا، حركة المشاهد، الفروق بين اللقطة العامة والمتوسطة والقريبة. كيف توصلت إلى هذه الأساليب.. ما تعليقك؟
- لأني أحببت كتابة السيناريو قدر حبي لكتابة الرواية،. حتى درسته بشكل شخصي عبر مدارسه المختلفة، من هوليوود إلى المدرسة الإيطالية ومروراً بالمصرية. بوقت متأخر فهمت أنه ربما كان عليَّ ومنذ البداية إعداد نفسي لهذا الفن دون الرواية، لكن أين هي السينما؟ وعلى قول المخرج العراقي ناصر حسن حين عرضت عليه (حصار العنكبوت) «صديقي حصار العنكبوت خامة ممتازة لإنجاز فيلم  سينمائي جيد، لكن أين هذا الذي يستثمر بضعة ملايين من الدولارات في عمل سينمائي؟!» لا أدري ربما نكاية بهذا الفقر؛ وجدتني أصرّ على تطعيم رواياتي بالسيناريو، ما أن يستوقفني مشهد أعجز عن وصفه سردياً حتى أترك القلم وأمسك الكاميرا.
في روايتك « حصار العنكبوت « هناك الأنصار، المدنيون، الشخصيات التي تمثل الخوف، الخيانة، والتردد. ما الشخصية التي تمثل – في رأيك – المفارقة الكبرى في الرواية، كيف لك أن تصوغ الرواية من منظور جماعي مقابل منظور فردي؟ هل الشخصية الفردية تخدم الهدف العام للرواية أم أنها تُستخدم أيضاً في إبراز التوترات الداخلية والعاطفية؟
بالطبع لا مفر من استخدام الفرد لإبراز التوترات الداخلية والعاطفية لخدمة المنحى العام (الجماعي) داخل السرد. لم أنس بعد مشاهد الأمهات مع أطفالهن من عوائل الأنصار الأيزيدية والمسيحيين ونحن نتداول في مصائرهم في اجتماعاتنا؛ هل يسلمون أنفسهم للنظام استجابة لقرار العفو الذي صدر يوم 6/ 9 أم نقاتل وهم بيننا؟! كما ترى سؤال عويص غير قابل للإجابة عليه بنعم أو لا، وأنت تسمع صراخ الأطفال الرضع بعد أن نشف الحليب من صدور أمهاتهم بسبب العطش والجوع والنوم في العراء. تجنبنا القتال بكل الطرق طالما هم معنا. كانوا ثقلاً هائلاً على أكتافنا. أجبروا أخيراً على التسليم، بعد صراعات معلنة ومخفية بين الأزواج والزوجات اللواتي رفضنَّ التسليم والسنتهنَّ تلهج؛ لا ثقة بوعود البعثيين. أكثر من 190 امرأة وطفل ورجل من كبار السن، سلموا أنفسهم واختفت آثارهم إلى اليوم. هذه الدراما القاسية استغرقتني عشرين سنة أداولها وتداولني.
في العقود الثلاث الأخيرة هيمن السرد الروائي بالمشهد الثقافي، وهي كما أعتقد حالة عامة في المشهد العالمي، هل ترى ان الرواية في العراق، ازاحت الشعر من موقعه في السيادة.. وكيف تجد المشهد الروائي في العراق؟
- الحياة غير متصالحة مع الفراغ.. أفول نجم الشعر مؤكد سيملأ بشكل تعبيري آخر. أما لماذا أفول نجم الشعر وكيف نتأكد من حصوله، هذا أمر لا أجرؤ على الخوض فيه، لم أكن شاعراً في أي يوم ولم أجرؤ على تجريب هذا الشكل ربما تهيباً وحباً للشعر. وبالنسبة للمشهد الروائي؛ قديماً كان من يكتب القصة القصيرة والرواية يمكن أن تعدهم، أما الآن فلا أدري إلى أين وصل الرقم. بعد 2003 حدث ما يشبه السيل العارم في السرد العراقي. ولأنه سيل فالمؤكد يحمل في خضمه الغث والسمين.
وأخيرا، من هم آباؤك في الرواية، من الذين كان لهم أثر كبير فيما كتبت؟
- لا يوجد عندي آباء بمعنى أدباء أحببتهم وجعلت منهم انموذج للمقارنة. لحسن الحظ دربت نفسي على نعمة النسيان. عند الكتابة أنسى تماماً كل ما قرأته وأعجبت به. لكن لا أنسى تأثير اثنين لا علاقة لهما بالأدب. الأول هو أبي، منذ الصغر مولع بحكاياته ولاحظت أنه قادر على سرد ذات الحكاية بطرق مختلفة، يقدم ويؤخر، يحذف ويضيف، وينجح في كل مرة بجعلها ممتعة وقابلة للمتابعة. كان حكاء في دواوين العشائر يمزج الحكاية بالطرفة والمفارقة وبعض الغرائب. الشخص الثاني كان له فضل مباشر عليَّ هو الدكتور غانم حمدون الذي رأس مجلة الثقافة الجديدة خلال التسعينات. أرسلت له يوماً مادة لنشرها كنت في هولندا وهو في إنكلترا وأجابني برسالة كانت بالنسبة لي حافز هائل للثقة بالنفس، كتب لي على طريقته في المزاح «هاي أنت وين كنت يا واوي كل هاي السنين.. مو أنت كنت قريب مني بالغرفة الثانية). يقصد أني عملت في مكتب إعلام الحزب في دمشق بجوار غرفته دون أن أحاول النشر في تلك السنين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram