جمال العتّابي
غمرتني سعادة فائقة حين اتصل بي طبيب الأسنان "سعدي شرشاب ذياب"، كان اتصاله بي أشبه ببشارة محمّلة بفرح طفولي، صوته يفيض حماساً وبهجة، كأنه يزفّ لي خبراً شخصياً لا يخصّ سواه:
ـ أستاذ..صدر كتابي ( على ضفاف العالم الافتراضي...) نسختك محفوظة عند صديقي الصيدلي...في الباب الشرقي.
ـ شكراً سعدي، سأختار الوقت المناسب لاستلام الكتاب، مع أجمل التهاني لك.
في أحد المساءات، كانت الشمس تميل نحو الغروب، والهواء يحمل رائحة الخريف الأولى، فيما قلبي يخفق بخفقة غريبة بين لهفة ووجل، عدت إلى البيت أحمل كتاب سعدي، وطوال الطريق كنت اتصفح الكتاب بخوف محبّ، كأنني أفتش عن ظل من ذاك الماضي، عن ذكرٍ قد يحرجني أو يضحكني، لكن قلقي ما لبث أن تلاشى في أول صفحة ذيلها بإهداء جميل: إلى أستاذي ومعلمي...
ابتسمت ابتسامة المعلم حين يجد أحد تلامذته نال ما يستحق من علم ومقام رفيع، بعد أعوام طويلة، على ضفاف العالم الواقعي هذه المرة. تبددت مخاوفي، وحلّ محلها شعور طافح بالفخر، سعدي لم يذكر «الصفعة» إذاً، لكنه منحني ما هو أجمل: إهداءً يفيض محبة واعترافاً جميلاً بمعنى التربية والتعليم.
هكذا يا سعدي عرفتك، تلميذاً ذكياً، مشاكساً، ثم إنساناً نبيلاً صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، كانت مروياتك صافية كذاكرة حيّة، تنتقل بين المدرسة، والمهنة، والخدمة العسكرية، بين الجدّ والمزاح، بين الجرح والضحكة.
كنت أقرأ بشغف ولهفة ما فَعلتَه مع مدرس "الدين"، حين كان موضوع الدرس "أحكام الرضاع" كان المدرس شيخاً يعتمر عمامة بيضاء، يسأل تلامذته إن كانت هناك إضافة أو لديه سؤال، فتصديت وحدك لتسأله:
ـ أستاذ، ما حكم رضاعة الحليب الاصطناعي؟ هل يعني أن طفلين رضعا "البلاركون" يصبحان أخوة بالرضاعة، انفجر طلبة الصف بالضحك، وامتعض الشيخ، فصاح طالب يجلس خلفك: أخويه كيكوز 2، وابن عمي كيكوز 1.
ومثل هذه لديك قصصاً كثيرة، مع مدرس الكيمياء الذي سألته عن كيفية احتساب الذرّات عام 1811، كان يعتقد أنك تسخر منه، فأجابك بامتعاض: الذرات بنظرك مثل الدعابل اللي يشتريهن أبوك حتى تلعب بيهن!
كانت أسئلة سعدي تُربك أحياناً، وتثير الدهشة أحياناً أخرى، ولذا كان حين يضحك أو يثير ضحك زملائه، كنت أدرك أن خلف ابتسامته عقل متّقد، لا يقصد السخرية، بقدر ما يسعى إلى الفهم بطريقته الخاصة. كان المدرسون يعتقدون أنه يسخر منهم، يطلق تعليقاته الساخرة في لحظات غير متوقعة، فتتعالى ضحكات الطلاب في الصف، فاستحق العقاب مني.
ذلك الذكاء المبكر أربك معلميه في الصغر، هو ذاته الذي صاغ لاحقاً لغته الخاصة ككاتب ومثقف، يعرف كيف يمزج بين الجد والهزل. كنت أقرأ في عينيه ذكاءً لماحاً، وفضولاً نادراً، يحفظ الشعر، والنوادر في التراث العربي والشعبي، يقرأ في صنوف الأدب والمعرفة، فامتلك وعياً نقدياً يستحق الاحترام.
لعل أجمل المرويات التي توقفت عندها في ضفاف «شرشاب»، تلك التي أعاد فيها إلى ذاكرتي سيرة الأديب والشاعر محمد النقدي، الذي لاقى من الجحود والإهمال الشيء الكثير، على الرغم من أن الجواهري فضّله على مئة شاعر نسجوا على العمود في زمانه ـ حسب ما ذكره حميد المطبعي ـ كانت لسعدي علاقة طيبة وجميلة مع النقدي استمرت حتى وفاته.
في محطة أخرى التقى سعدي الموهوب في الرياضيات " عادل شعلان"، كانت الأرقام تنحني له طاعة ودهشة في أوائل ستينات القرن الماضي، كانت المفارقة أنه صار ضابط احتياط بين خنادق الحرب، فيما كان سعدي يؤدي خدمته العسكرية مجنداً كطبيب أسنان. في ذلك اللقاء وسط صدى المدافع، تبادل الأثنان الذكريات في حضرة الموت، لكن الحكاية لم تنته، كتب شرشاب قصة شعلان المريرة: لم تحتفي الدولة بعقولها المضيئة، تهدر طاقاتهم في دراسة لا علاقة لها بالموهبة، ولا عمل يمتّ بصلة لاختصاص الموهوب، يذكر سعدي أن عادل شعلان كان يعمل قاطع تذاكر في إحدى المراكز الصحية في النعمانية، مات فيها أخيراً بصمت يليق بالمنسيين.
كتب سعدي تلك القصة وفيها مرارة السؤال عن جيل طحنته الحروب، وشهادة امتلكت بعدها الإنساني بلغتها الأنيقة. قرأت كتابك، وفي أعماقي امتنان خفي، لأن علاقتنا امتدت عبر هذه السنوات، منذ عرفتك طالباً في متوسطة العدالة في مدينة الحرية، ثم امتدت إلى فضاء الحياة، فصار التلميذ صديقاً وشاهداً يصل بين زمنين.
على ضفاف العالم الافتراضي: شهادة امتلكت بعدها الإنساني بلغتها الأنيقة

نشر في: 22 أكتوبر, 2025: 12:05 ص









