TOP

جريدة المدى > عام > الريادة غير المفقودة أو محمود البريكان

الريادة غير المفقودة أو محمود البريكان

نشر في: 22 أكتوبر, 2025: 12:09 ص

أحمد الزبيدي
سيحيلك عنوان المقال إلى الكتاب، الرائد في دراسة محمود البريكان( الشعرية المفقودة، دراسات وشهادات عن الشاعر محمود البريكان ) تحرير وتقديم د. حسن ناظم، شارك فيه نخبة من النقاد والكتاب المعروفين .. وسيحيلني خيالي إلى تصور درامي: ما ذا لو صدرت أعمال البريكان الشعرية قبل صدور الكتاب المار ذكره؛ فهل سيكون عنوانه ( الشعرية المفقودة ) ؟ .. في رواية ( ناقة الله ) لإبراهيم الكوني، وعلى لسان بطله الصحراوي، الذي ضيع ناقته وأخذ يتّبع أثر أقدامها في الرمال، التي بدأت بمحو الأثر شيئا فشيئا فقال البطل : ( أيعقل أن تكون الآثار هي الدليل الوحيد على الذين رحلوا؟ ) فلو لم تقع عين الشاعر ( علي نوير ) على عين شقيق الشاعر، في المملكة العربية السعودية، ولو لم تحول دار الشؤون الثقافية تلك النظرة الحانية إلى أعمال مطبوعة ومحققة، لما كان عنوان المقال (الريادة غير المفقودة ) بل لما فكرت بالكتابة عن البريكان أصلًا . فشكرًا لكل من أسهم في إصدارها .. وشكرًا للقدر ( فنحن- البشر _ لا نمدح القدر إلا حين ينصفنا )
يقول جون رُستان : ( لو لم يقم عالم من العلماء باكتشاف ما، لقام به عالم آخر من بعده، إن ( مندل) قد مات مجهولًا رغم اكتشافه لقوانين الوراثة، وبعد أربعين سنة، أعيد اكتشاف هذه القوانين من قبل ثلاثة علماء، أما الأثر الشعري، المبدع، الذي لم يقع تأليفه، فلن يؤلفه أحد بعد ذلك أبدًا ).. فلو اجتمع كل أصدقاء البريكان وحساده، على أن يأتوا بمثل هذا الديوان فلن يأتوا بمثله، و أصله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وعلى ذكر الشعرية المفقودة تقول نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر في مقدمة حديثها عن الريادة وقصيدة الكوليرا عام 1947 تقول : (( ومضت سنتان صامتتان لم تنشر خلالهما الصحف شعرا حرًّا على الإطلاق )) حتى صيف عام 1949م صدر ديوان نازك ( شظايا ورماد ) وفي آذار 1950م صدر ديوان البياتي (ملائكة وشياطين) ثم ديوان شاذل طاقة في صيف 1950م ( المساء الأخير ) ثم ديوان السياب ( أساطير) في أيلول 1950م .. وما ذكرت الخبر العاجل الذي صرحت به نازك الملائكة إلا لأنني وجدت في أعمال البريكان قصائد حرة تعود لعام 1949م وقصائد نثر كتبها عام 1950م.. فإضمار النصوص بين طيات الورق يمنح المطبوع والمشهور الأحقية في التفاضل والتباهي والسبق، لأن الحكم يعتمد على الدليل، وليس على قراءة الغيب والفنجان المقلوب!
ثمة تساؤل آخر يدور في ذهن مَنْ قرأ أعمال البريكان الشعرية، عن المنجز العائد من صحراء نجد، والذي سيرغم النقدية العراقية على مراجعة التصورات المعيارية والوصفية، وخاصة أن السّنّة النقدية العراقية ترتكز _ كثيرًا _ إلى ظاهرة الأجيال الشعرية برؤية زمنية تعاقبية. فهل ثمة مقعد محجوز للبريكان ضمن فريق الريادة الشعرية ؟ هل سيكون العدد خماسيا؟ وهل سيتنازل النقاد _ الأحياء منهم والأموات _ عن أحكامهم الرباعية؟ وهل سنضيف خصومة أخرى على التنافس والأسبقية لخصومة نازك والسياب ؟ أو السياب والبياتي ؟ ومن الرائد الذي سيتبرع في مخاصمة البريكان ومنافسته ؟
في أعمال البريكان ستجد قصائد درامية سبّاقة لقصائد السياب كـ( المومس العمياء (و( حفار القبور) منها قصيدة عنوانها ( الهائمات ) ويشير الدال إلى النسوة الهائمات في بيع الهوى، والتلذذ بالجسد المباع والمشترى.. وحين تقع عينك على صور القصيدة البريكانية ذات الولادة المبكرة حسب تأريخ القصيدة المثبت في متن الأعمال ( 1949م)، ستشك وكأن السياب تلصص على مخطوط البريكان الشعري وصورة المرأة الحسية : ( في النور من أجسادهن الجوف عن جثث عجاف/ ممسوخة شلاء تنخرها جراثيم الوباء/ بالسحر والإغراء.. غرقى بالعطور وبالزيوت/ .. في شعرهن وفي قرارتهن أزهار تموت ). ولا أعني بذلك السابق واللاحق، والمؤثر والمتأثر، وليس الأمر بحاجة إلى ( ناقد جنائي ) يكشف بصمات التناص!! وإنما أعني مسألة في غاية الأهمية، وقليلًا ما تلتفت إليها عين الناقد، وهي مسألة ( الوعي الشعري ) الذي يقوم على الحس المشترك، والرؤية المتقاربة، والثقافة المتوازية، من دون أن يكون ثمة اتفاق قصدي على مستوى المشاورة والمؤازرة، أي أن الريادة الشعرية حين تكون محدودة الذكر فإنها لا ينبغي أن تتوقف عند البعد الزمني وكأنهم في مدرسة شعرية مصنفة على صفوف مدرسية ومراحل متعاقبة! فإن لم يكن ثمة ( وعي ) مشترك بين أصحاب الطبقة الشعرية الواحدة فهذا يعني أنها ريادة مصطنعة تعتمد على الأرقام والإحصاء العددي.. والتقارب في الوعي يقود بالضرورة إلى تقارب مرجعياته التي تمثل مصدر تكوين الأفكار، فالشعر ليس ركاما من المجازات والبلاغات والاستعارات، وليس لغة لأجل اللغة فحسب، وإنما هو عالم متداخل من اللغة والرؤى والأفكار والخيال والمجاز.. وكل حركة تجديدية ومغايرة في بنيتها اللغوية، لابد أن تكون ذات رؤية فكرية مختلفة وتصورات ثقافية جديدة، تحث الشاعر على المغايرة فيعي مسؤوليته عبر ( وعيه الشعري )، الذي يتجسد ببنية لغوية وتشكيل تصويري يعبر عن التجربة الجديدة في بناء جديد، يقوم على علاقات مختلفة بين الدوال اللسانية الحائكة للبنية التركيبية. فكثير من جمل البريكان الشعرية ما تشك أنها مقطوفة من حقل السياب، وكثير من الجمل السيابية ما تشم فيها رائحة الريكان، وليس بالضرورة أن تكون يد أحدهما طويلة تمتد إلى حرمة الآخر، وإنما بالضرورة أن يكون ( وعيهما ) طويلًا ورفيعا ومتقاربا ومتوازنا بحيث أنجب ( لغة متقاربة ).
ومن هذا المنطلق، أعتقد أن النقدية العراقية الحديثة بحاجة إلى مراجعة أحكامها، ليس لصدور أعمال كانت مفقودة فحسب، بل ثمة مراجعة_ من وجهة نظر شخصية _ تقوم على النظرة التزامنية وتبتعد عن المستوى التعاقبي، الذي أنتج ظاهرة الأجيال الشعرية من دون حقيقة شعرية كلية أو ملحّة.. والسبب أن المستوى التعاقبي أفرز أحكاما راسخة قائمة على الأول والثاني والسابق واللاحق وأدت إلى استقرار متكلف أما النظرة التزامنية في كفيلة بإعادة النظر على وفق النص/ القيمة. .. أقول : آن الأوان أن تكون ثمة مراجعة نقدية لمفهوم الريادة ومعيارية طبقاتها ومسطرة القياس والتقويم والنظر إلى المنجز الإبداعي برؤية تزامنية وتعاقبية وبعيدة عن الضواغط الإيديولوجية التي أكلت الكثير من الجرفين : الشعري والنقدي على حد سواء .. وبغض النظر عن القيمة العددية فالمهم هو القيمة النصية .. يقول ( براك ) : ( جعل الفن ليربكنا؛ جعل العلم ليطمئننا ) ومحمود البريكان واحد من أهم الشعراء الذين أربكوا عالمنا النقدي المطمئن ..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram