د.سهام يوسف علي
رغم أن العراق يخرّج آلاف المهندسين والأطباء كل عام، يظل الاعتماد على الخدمات الأجنبية هائلًا، خصوصًا في المجالات الفنية والهندسية. فقد كشف رئيس غرفة التجارة الإيرانية – العراقية المشتركة، يحيى آل إسحاق، أن العراق يستورد حوالي 70% من خدماته في هذه القطاعات، فقد صدّرت إيران وحدها خدماتٍ فنيةً هندسيةً إلى العراق بقيمة 128 مليون دولار خلال ستة أشهر، وتتراوح الصادرات السنوية بين 300 و400 مليون دولار، بما فيها مشاريع البنية التحتية الكبرى، والخدمات التقنية والهندسية المتخصصة. هذه الحقيقة تضع أمامنا سؤالًا صارخًا: هل خبراتنا الوطنية غائبة أم مستبعدة؟
التناقض صارخ. آلاف الخريجين من كليات الهندسة والطب يتطلعون إلى وظائف وفرص لتطبيق مهاراتهم، لكن مشاريعنا الوطنية تُدار غالبًا بواسطة شركات أجنبية. المال يُنفق، والكفاءات تبقى حبيسة البطالة أو تغادر البلاد بحثًا عن فرص في الخارج. أسباب هذا الواقع واضحة: ضعف التدريب العملي، بطء الإجراءات الحكومية، غياب سياسات واضحة لتوظيف الخريجين في المشاريع الوطنية، وتفضيل العقود الأجنبية السريعة على حساب الكفاءات المحلية.
ما معنى استيراد الخدمات؟
ببساطة، يعني أن الدولة أو الشركات العراقية تلجأ إلى شركات أجنبية لتقديم خبراتٍ أو تنفيذ مشاريع كان من الممكن أن تقوم بها الكوادر الوطنية. وتشمل هذه الخدمات: الهندسة، وإدارة المشاريع الكبرى، والاستشارات الفنية والإدارية، وتكنولوجيا المعلومات والبرمجيات، والتدريب والتعليم المهني، والخدمات المالية والمصرفية المتخصصة.
ماذا يعكس هذا الوضع؟
أولًا، ضعف البنية الإنتاجية والمعرفية: 70% من الخدمات مستوردة، وهذا يعني أن الجامعات والشركات المحلية لم تبنِ قدرات كافية لتلبية الطلب على الخبرات الفنية والهندسية.
ثانيًا، اعتماد الدولة على الخارج: مشاريع البنية التحتية الكبرى تُدار غالبًا بواسطة شركات أجنبية، ما يجعل العراق مستهلكًا للتنمية بدلًا من أن يكون منتجًا لها.
ثالثًا، تأثير على سوق العمل: الكفاءات العراقية تُهمَّش، ويزداد إحساس المهندسين والفنيين بالبطالة أو الهجرة إلى الخارج.
رابعًا، نزيف اقتصادي: الأموال التي تُنفق على الخدمات الأجنبية غالبًا ما تخرج من الاقتصاد المحلي، بدلًا من أن تُعيد دورة التنمية داخله.
ما نستورده ليس مجرد مواد أو معدات، بل معرفة وخبرة بشرية في الهندسة وإدارة المشاريع الكبرى، والاستشارات الفنية والإدارية، وتكنولوجيا المعلومات، والتدريب المهني، والخدمات المالية المتخصصة. المال يُنفق مقابل الخبرة بدل أن يُستثمر في بناء القدرات الوطنية، وهذا يخلق دائرة مستمرة من الاعتماد على الخارج واستنزاف الموارد.
العواقب ليست نظرية، بل حقيقية: نزيف مالي هائل يخرج من الاقتصاد المحلي، وإهمال الكفاءات الوطنية، وتأخر التنمية التي يُفترض أن يقودها أبناء البلد أنفسهم. إذا أردنا كسر هذه الدائرة، يجب أن نعيد ترتيب أولوياتنا: تطوير التعليم التقني والهندسي وربطه مباشرة بسوق العمل، وتشجيع القطاع الخاص المحلي على تنفيذ المشاريع الكبرى، وإلزام الشركات الأجنبية بنقل المعرفة، وتعزيز ثقافة الابتكار والإنتاج المحلي لبناء سيادة اقتصادية حقيقية.
استيراد 70% من خدمات العراق ليس مجرد رقم في تقرير، بل مرآة ضعفنا المؤسسي والمعرفي. رغم وجود آلاف الخريجين المؤهلين، يبقى الاعتماد على الخارج هائلًا، ما يهدد التنمية ويهدر الموارد. إذا أراد العراق أن يتحول إلى دولة منتجة ومستقلة، فعليه أن يحوّل هذا الاعتماد إلى فرصة لبناء القدرات المحلية، قبل فوات الأوان.










