بغداد / تبارك عبد المجيد
في ظل تقلبات الأسواق العالمية وتراجع الثقة بالعملات الأجنبية، يشهد الذهب إقبالاً غير مسبوق من الأفراد والمستثمرين حول العالم، انعكست آثاره بشكل مباشر على السوق العراقية. فمع تزايد الطلب العالمي على المعدن الأصفر بوصفه «الملاذ الآمن» في أوقات الأزمات، ارتفعت معدلات استيراد الذهب إلى العراق لتلبية احتياجات السوق المحلي، وسط دعوات رسمية إلى تعزيز الرقابة وتنظيم عمليات التداول لحماية الاستقرار المالي. وفي الوقت نفسه،
يحذر خبراء اقتصاديون من أن هذا الارتفاع، رغم فوائده في التحوّط من التضخم، قد يفتح الباب أمام مخاطر مضاربة أو استغلال السوق في عمليات مالية غير مشروعة، ما يستدعي موازنة دقيقة بين حرية السوق والرقابة الفاعلة.
قال المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، إن الذهب يظل الملاذ الآمن لدعم استقرار العملات، مشيراً إلى أن البنوك المركزية حول العالم، وعلى رأسها بنك الشعب الصيني، بدأت تتخذ خطوات تدريجية للتحوط بالذهب بعد عزوفها عن الاستثمار في السندات السيادية الأمريكية، في وقت خفّض فيه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الفائدة الدولارية. وأضاف أن الصين والهند ومصارف مركزية أخرى لجأت إلى الذهب لدعم عملتها الوطنية، وهو ما دفع شركات الاستثمار حول العالم إلى القيام بـ«هبات شراء غير مسبوقة» للمعدن الأصفر.
وأضاف صالح لـ«المدى» أن «هذه التطورات العالمية انعكست مباشرة على السوق المحلية العراقية»، مشيراً إلى أن العراق مستورد صافي للذهب، حيث تقدر الأوساط التجارية أن كمية الذهب المستورد يومياً لا تقل عن 50 كيلوغراماً وقد تصل أحياناً إلى 70 كيلوغراماً لتلبية احتياجات السوق.
وأوضح أن ارتفاع أسعار الذهب يعكس انخفاض قيمة الدولار، مما يحفز الأفراد والمستثمرين على شراء الذهب كملاذ آمن للحفاظ على فوائض الأموال العائلية والتجارية، بدلاً من الاحتفاظ بها بالعملات الأجنبية.
وأشار إلى أهمية حماية العرض المحلي من الذهب لمنع تسربه خارج البلاد، مشدداً على دور السلطة الجمركية في فرض رقابة صارمة لضمان استقرار السوق المحلي. وأكد أن مدينة الذهب في العراق تلعب دوراً محورياً في امتصاص الطلب المحلي المتزايد، وضبط الأسعار لتبقى متماشية مع الأسعار العالمية، ومنع المضاربات التي قد تؤدي إلى فقاعات سعرية أو أرباح طارئة غير مشروعة.
واختتم المستشار الاقتصادي حديثه بالتأكيد على أن هذه الإجراءات تأتي في إطار سياسات حكومية تهدف إلى تحقيق الاستقرار المالي وحماية المواطنين، والحفاظ على سوق الذهب الوطني من التلاعب والمضاربة، وفق قوانين المنافسة ومنع الاحتكار.
الباحث الاقتصادي أحمد عيد أوضح أن هذا الارتفاع لا يمكن النظر إليه من زاوية واحدة، بل هو نتيجة تداخل مجموعة من العوامل الاقتصادية والنقدية على المستويين المحلي والعالمي.
فمن الجانب الدولي، يشير عيد لـ«المدى» إلى أن التوترات الجيوسياسية وتراجع الثقة في أسواق الأسهم والعملات دفعت المستثمرين حول العالم إلى اللجوء إلى الذهب كملاذ آمن يحافظ على القيمة في أوقات الأزمات. هذه الموجة العالمية من الإقبال انعكست بطبيعة الحال على السوق المحلي، فارتفعت الأسعار بشكل ملموس.
أما داخلياً، فقد ساهم انخفاض القوة الشرائية للدينار العراقي وارتفاع معدلات التضخم في تعزيز الطلب على الذهب، إذ أصبح بالنسبة لكثيرين وسيلة للتحوّط من تآكل المدخرات وحماية الأموال من تقلبات السوق. ويرى عيد أن هذا السلوك طبيعي في الاقتصادات التي تواجه ضغوطاً تضخمية، لكنه يحمل في طياته آثاراً مزدوجة. فعلى الرغم من أن الذهب يُعد أداة آمنة للادخار، فإن الارتفاع المفرط في أسعاره قد يؤدي إلى اضطرابات في السوق النقدي، بحسب عيد. الأخطر من ذلك، كما يحذر الباحث، هو إمكانية أن يتحوّل سوق الذهب إلى منفذ غير مباشر لعمليات غسل وتبييض الأموال، خاصة في ظل غياب الرقابة الصارمة وضعف الإجراءات التنظيمية.
ويشرح عيد أن بعض الجهات قد تستغل مرونة سوق الذهب لإخفاء مصادر الأموال غير المشروعة، عبر شراء كميات كبيرة نقداً أو بأسماء وهمية، ثم إعادة بيعها لاحقاً لتغيير هوية الأموال ومصدرها، ما يصعّب تتبعها مالياً.
ولتفادي هذه المخاطر، يؤكد الباحث ضرورة تعزيز الرقابة المالية وتنظيم تجارة الذهب، بحيث يتم توثيق جميع عمليات الشراء والبيع عبر النظام المصرفي، وربط محال الصاغة وتجار الذهب بنظام الإبلاغ المالي ومتابعة التحويلات. هذا الإجراء، برأيه، من شأنه أن يضمن شفافية التعاملات ويحافظ على استقرار السوق، فضلاً عن منع استغلاله في أغراض غير مشروعة.
ويشدد عيد على أن تحقيق التوازن بين حرية السوق والرقابة الفاعلة هو السبيل الأمثل لضمان أن يبقى الذهب أداة استثمارية آمنة، لا وسيلة للتهرب المالي أو غسل الأموال، مؤكداً أن الثقة بالاقتصاد الوطني تبدأ من إحكام الضوابط على تداولاته الأساسية.










