لطفية الدليمي
عنوانُ هذه المقالة مُسْتلٌّ من عبارة منسوبة للفيلسوف الرواقي إبيكتيتوس. العبارة في سياقها العام تقول بصيغة التساؤل المشوب بالحزن والغضب: «حتى متى تجمعُ رمادَ الآخرين؟ أنا من جانبي أفضّلُ العيش في النار». بحثتُ عن أصل هذه العبارة: في أيّ كتاب لإبيكتيتوس وردت؟ وفي أي سياق كتبها الفيلسوف؟ أظنّها عانت بعض التحوير الدرامي. أقرَبُ العبارات المؤكّدة المنسوبة لإبيكتيتوس والتي تتناغم مع روح العبارة أعلاه هما عبارتان متجاورتان ومتّسقتان: الأولى تساؤل جوهري «من سيّدُكَ؟ من ذا الذي يملك زمام الأمور التي تعلّقتَ بها أو تسعى لتجنّبها؟»، والثانية عبارة تقريرية مثيرة «لا حُرّ إلّا مَنْ يملكُ زمام روحه». لندع الآن الموضوعة التأصيلية لأنّها ليست الجوهر. الجوهر هو حياتنا المتوزّعة بين نار ورماد. أحد الأسس المركزية في فلسفة إبيكتيتوس تقول بأنّ ثمة شيئين جوهريين في الحياة: ما هو في سلطة إرادتنا وما ليس كذلك. بمعنى: نحن لا نتحكّم دائماً بما يحدث لنا؛ لكننا نتحكّم بردّات فعلنا تجاهه. تأسيساً على هذا المفهوم فإنّ جمع (رماد الآخرين) – أي أن نعيش تحت ضغط ما تركه الآخرون لنا من توقعات، أو أن نعيد تجاربهم أو أخطاءهم أو رؤاهم – هو نوع من العبودية: عبودية الماضي، أو عبودية التجارب التي ليست لنا؛ في حين أنّ (العيش في النار) يمكن أن يُفهَم تمثلاً للعيش بوعيٍ، بمسؤوليةٍ، بالمواجهة الحقيقيّة حتى لو كانت عسيرة. في سياق الفهم هذا يمكن أن يكون إبيكتيتوس قد حذّر – ولو بصورة غير مباشرة – من أن نُنْهِك أنفسنا بتكرار أخطاء الآخرين، أو بتجميع الذنوب أو الأخطاء التي ارتكبها غيرُنا ونحملها كعبء داخلنا بدل أن نُضيئ أرواحنا بنار التجربة الخلاقة. يمكنُ النظرُ إلى (جمع رماد الآخرين) كأمثولة مجازية في منظورنا المعاصر للعيش في ظلّ ثقافة محكومة بالمقارنات والسلبية. يمكن أن نفهم العبارة كأنّنا نستمر في إحياء بقايا تجارب الآخرين ونعيد تمثّلها وإحياءها. نعيش حيوات أخرى بدلاً من عيش حيواتنا الخاصة. سنعيد حينها إنتاج أخطاء آبائنا، وكلماتٍ قيلت في سياقات مختلفة عمّا تمثلناه وعشناه، وتجارب لا نعرف عنها شيئاً ونُخزّنها في داخلنا، وربّما نُعيد إنتاجها أو نعيش تحت تأثيرها. هذا الفعل يشبه أن نحفظ الرماد الذي لم يتّقدْ منذ زمن. رماد بارد ليس أكثر من عبء. لن يستحيل ناراً مهما نفخنا فيه. في فلسفة إبِكتيتوس هناك توصية واضحة بأنّ الإنسان لا ينبغي أن يكون أسيراً لتلك الأعباء التي هي خارج إرادته. يدعونا إبيكتيتوس إلى أن نُمارس السيطرة على إرادتنا، وألّا نزيد مناسيب ضعفنا بأنفسنا، ولا ننتظر أن يقودنا الحظّ أو الظروف أو كلامُ الآخرين. هنا تكمن الدعوة إلى أن (نُشعل النار) بأنفسنا: أن نُضيئ طريقنا، وأن نحتفظ بالنشاط الخلاق، وأن نبثّ الحياة في الفعل الذي نختاره، لا أن نكون جامدين تحت سلطة ما تركه غيرُنا بصرف النظر عن شكل هذه السلطة. في المقابل، وفي سياق المقاربة المجازية ذاتها، يمكن فهمُ (العيش في النار) إشارةً إلى الشجاعة والتحرّر وتفضيل مخرجات التجربة الشخصية حتى لو تضمّخت بالألم. هل ثمّة حياة حقيقية من غير ألم التجربة؟ النار هنا لا تعني فقط الألم أو المعاناة؛ بل أيضاً الحياة المُفعّلة، والحيّز الذي لا تخشى فيه أن تكون أنت: أن تُخْرِج أفضل ما فيك، أن تواجه ما في داخلك من نزعات متصارعة: التوق، الحبّ، الخوف، الشك، الأمل،... بدل أن تبقيها ماكثة وراء أقنعة، أو أن تختار الأسوأ وهو ارتداء أقنعة الآخرين. حينها ستنخرك هذه الرغبات المقموعة كما تفعل حشرة أرضة في جذع يابس ينتظر الموت. فلسفة إبيكتيتوس تشجّعُنا على أن نُمارس الفضيلة كفعل يوميّ، أن نعيش اللحظة بما تحمله من مسؤولية، وأن نُحوّل (ما هو في وسعنا) إلى واقع. هو يُرينا أن الحرّية الحقيقية ليست في أن نملك الكثير بل في أن نكون أسياد أنفسنا. عندما نختار أن (نعيش في النار) فهذا يعني أن نحتضن الحرّية بأنفسنا حتى لو كانت تواجهنا تكلفةٌ باهضة أو مقاومة شاقّة مِنْ حولنا أو مِن داخلنا. في زمننا المعاصر، وحيث يكثر التنافس والمقارنة اللحظية بفعل خبائث بعض مخرجات وسائل التواصل الاجتماعي، وحيث يمتزج التاريخ الشخصي والعام، يصير جمع (رماد الآخرين) – تجاربهم، بثوثُهُم على وسائل التواصل، النجاحات الفعلية أو المُصطنعة – مُغرياً للوقوع في حبائلهم، والأهمّ من الإغراء هو الخطر المحدق بنا عندما نقبلُ أسر الغواية في عيش يعتمد مقاييس خارجة عنّا وعن مِيزاتنا حدّ أن ننسى أن نكون نحن. فلسفة إبيكتيتوس تُنبّهنا إلى أنّ السعادة ليست في امتلاك الكثير بل في أن نملك القليل من الرغبات، ونحيا بما نملك، ونستخدم ما لنا.
***
أعجَبُ بمن جعل أوبرا وينفري -مثلاً- قائدة بين قادة تيار التنمية الذاتية ونحنُ نعرفُ محرّكاتها الآيديولوجية التي انتهت إلى أرصدة متراكمة في خزينتها. لو أردتُ إشاعة خبرة حقيقية بشأن التنمية الذاتية فسأقول أنّنا واجدوها لدى الرواقيين، ومنهم إبيكتيتوس. تيار التنمية الذاتية في نسخته المعاصرة ليس أكثر من لعبة مصالح خفية ومقنّعة بلبوس العلم الصارم. هذا أولاً، وثانياً أظنُّ أنّ ما سيبقى -ويستحقُّ البقاء- من إرث الفلسفة الإغريقية هو هذا الوهج الخاص بالدوافع الحقيقية لعيش خلاق بعيداً عن التمرّغ في وحل البداهة المترسّخة بسبب أفاعيل وتجارب الآخرين. دعونا لا ننسى المعضلة العراقية في حمّى رؤية إبيكتيتوس. يبدو أنّ العراقيين، وعلى اختلاف أجيالهم، ما زالوا يغرقون في مستنقع الماضي، حيث تتلاطم الأمواج الثقيلة للذكريات والأحداث المؤلمة من الحروب الدامية إلى الصراعات الداخلية والقمع السياسي، ومن الانقسامات الطائفية إلى ضياع مزمن لفرص التنمية الحقيقية. تركَ التاريخ أثره العميق في النفوس حتى أصبح الماضي سجناً نفسياً يؤرق الحاضر ويعطّل المستقبل. في هذا المستنقع تعيش الأرواح على تكرار ما فقدته، وعلى استحضار الألم بلا توقف ومن غير طائل. يبدو أنّ العراقي صار يتلذّذُ بطحن روحه: كل ذكرى تصبح حجراً راقداً على الصدر، وكلُّ قصة مأساوية تتكرر في ذهن الفرد والمجتمع، وكأنّ الزمن نفسه قد توقّف عند لحظة الخسارة الأولى والفجيعة البعيدة. الغرقُ في الماضي ليس مجرد استرجاع للذكريات، بل هو عيش دائم في الألم والحنين، والإنشغال بما كان بدلاً مما يمكن أن يكون. مع ذلك، في قلب هذا الغرق يكمن درسٌ ثمين: الماضي هو معلم لا سيّدُ لمن شاء التعلّم ولم يرتضِ أن يكون عبداً مأسوراً. من يعي هذا سيبدأ رحلة التحرّر، سيبدأ بفكّ القيود النفسية التي تمنعه من التحرك، وسيختار أن يرى الحاضر مكانه الوحيد الذي يمكن فيه أن يصنع الفرق النوعي. المستقبل، مهما بدا بعيداً أو صعب المنال، لا يمكن أن يُبنى على الحنين وحده. الحرية الحقيقية تكمنُ في القدرة على اتخاذ القرار اليوم، بعيداً عن ظلال الماضي البعيد والقريب. عندما نختار أن نغادر مستنقع الذكريات فإنّنا نفتح لأنفسنا نافذة على الأمل، على الفعل، وعلى الحياة التي تستحق أن تُعاش، حياة تتجاوز الألم وتحتضن الإمكانات، حياة عراقية قادرة على النهوض من رماد الماضي إلى نور الحاضر. هذا لن يتحقق بأدوات السياسة والاقتصاد المعتَمَدَة في عراق اليوم. تلك الأدوات هي صانعة معضلات ولن تكون مفتاحاً لحلّ المشكلات. صانع المشكلة لا يعرف الحلّ ولا يريده أو يسعى على الأقلّ إليه. تلك هي معضلتنا العراقية. فكّر فيها وتخيّرْ خلاصك. لا أحد سينقذك من أسر (رماد الآخرين) سواك، ولن يديم نارَ روحك المضيئة أحدٌ غيرُك.










