أحمد حسن
ربما يشعر أي شخص يتجول بين دور النشر الباريسية أن الفلسفة تتكدس فيها كأنها قلب المدينة النابض إذ لا تكاد تفتح واجهة مكتبة كبرى أو صغيرة إلا وتجد الفلاسفة يتجاورون مع الشعراء، والتاريخ يُروى بلسان الفكر، والروايات تُغلَّف بلمسة من الميتافيزيقا. فكل شيء هناك يبدو مؤطراً بنفس فلسفي وكأن النص من دون الفلسفة يظل ناقصاً بلا روح ولا ذاكرة ولا حتى معنى.
أجد في باريس أن كتب الفلسفة هي الأكثر حضورا لأنها تُعتَبر في المخيال الفرنسي أصل كل معرفة. ويؤمن الفرنسيون أن الفلسفة هي التي أنجبت العلوم الإنسانية ومنحت العلوم الطبيعية معناها ووهبت للعلم روحه النقدية. لذلك نادرا ما يعثر المرء هنا على كتاب يخلو من أثر فلسفي فحتى الشعر والرواية والعلوم الاجتماعية كلها تستظل بظلها.
هناك مقولة تتردد في أوساط الكتّاب والناشرين الفرنسيين وسمعتها مرات عدة في دار النشر كلاسيك غانييه المشهورة أثناء حفلات توقيع كتب المؤلفين، "إن النص الفلسفي يحمي النصوص من الانقراض"، فالنص الذي لا يستند إلى سؤال فلسفي يُستهلَك بسرعة، يعيش لحظة ثم يموت، أما النص الذي ينطوي على فكرةٍ فلسفية، فإنه يكتسب خلودا رمزيا لأن الفلسفة تمنحه بعده الإنساني. الفلسفة في هذا المعنى، هي شرط الحياة الفكرية وهي التي تروض الحس الإنساني وتهبه القدرة على الفهم والتأمل والتساؤل.
في المقابل، حين أتأمل المشهد الثقافي العراقي، أجد غيابا مؤلما لهذا الحضور الفلسفي. فالكتب السياسية والاجتماعية والتاريخية تكتب في أغلب الأحيان بوعيٍ واقعي أو خطابي، لا بوعي فلسفي ولا نجد فيها ذلك الإطار الذي يربط الحدث بالفكرة أو الفكرة بالوجود. بينما في بدايات القرن العشرين وحتى في القرن التاسع عشر فكانت المؤلفات العراقية، بمختلف مجالاتها مشبعة بالفكر الفلسفي، لأنها كانت ترى أن الفلسفة أسلوب تفكير وليست تخصصا، أو ما يُشاع اليوم في العراق بأنه ترف معرفي.
ولئن عدنا أبعد، إلى العصر العباسي، نجد أن الإبداع العراقي كان ينطلق من الفلسفة بوصفها روح المعرفة، فالكندي، وجابر بن حيان، والجاحظ، جميعهم جعلوا الفلسفة لغة للعلم وللإبداع معا. كما أنه من اللافت أن رواد التكنولوجيا الحديثة في وادي السيليكون بأمريكا اليوم ينطلقون من المنبع ذاته من فلسفة العقل وفلسفة المستقبل ومن تصور فلسفي للإنسان والآلة.
لهذا، فإن موت الفلسفة هو بداية موت الأخلاق والحكمة والإنسانية. لذلك تُعقَد في فرنسا عشرات الندوات والملتقيات سنويا حول الفلسفة، كإطار يؤطر كل العلوم الإنسانية والعلمية أيضًا. فالسياسة تُدرَس في سياق فلسفة السلطة، والتاريخ يُقرَأ في ضوء فلسفة الزمن والذاكرة، وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) يُفكَّر من خلال فلسفة الاختلاف والآخر.
هكذا تظل باريس، من جامعاتها إلى مكتباتها، مدينة الفلسفة، مدينة منشغلة بالبحث عن معنى الإنسان وسط فوضى الحداثة في العالم، وتؤمن أن الفكر لا يُوزَن بعيار المعرفة، وإنما بنوع الأسئلة التي يطرحها. فالمفكر والباحث هنا هو من يعرف كيف يصوغ السؤال، لا من يملك الإجابات. في هذا الأفق، تتحول الفلسفة إلى ممارسة للوعي اليومي وإلى سلوك مقاومة ضد التبسيط والنسيان وضد ذلك الميل البشري لتحويل الحياة إلى عادة.
ومما وجدته في باريس أن الفكر لا يسكن المعاهد وحدها فهو ينساب في المقاهي وعلى أرصفة الكتب، وفي النقاشات التي تمتد حتى منتصف الليل، إذ شعرت أن الكلمة تُرى كحدث وجودي. فأن تكون في باريس يعني أن تعيش في حضرة السؤال لأنك تسير بين الكتب وتصبح كل فكرة، مهما كانت صغيرة، قادرة على أن تعيد ترتيب العالم على نحو جديد، كما رأينا عند رينيه ديكارت وباسكال وغيرهما.
لهذا، تستيقظ في الذاكرة صورة بغداد القديمة… بغداد الزهاوي والرصافي والمتنبي ودعبل الخزاعي ودار الحكمة وما كتبه الجاحظ وابن سينا وابن الخطيب البغدادي. فهي المدينة التي كان يُكتَب فيها الشعر للتفكير. كانت بغداد في أوج عصورها الذهبية كما يسميها البعض لأن كتابها ومثقفيها كانوا يمارسون الفلسفة من غير أن يسموها، متشبعين بروح السؤال الفلسفي. كانت المقاهي البغدادية آنذاك جامعات الهواء الطلق، حيث يدور النقاش حول معنى الأخلاق والعدل والحرية، وحيث كانت اللغة نفسها مشروعا فلسفيا يتجاوز حدود البلاغة إلى تخوم الوجود.
لقد كانت بغداد، قبل أن تُصاب بالعطب، تشبه باريس في شغفها بالفكر، وكانت تؤمن بأن النص وسيلة للفهم، لا أداة للتعبير، وأن الإنسان لا يُؤخَذ بما يملك وإنما بما يسأل. ومنذ أن تراجعت الفلسفة عن المشهد العراقي انطفأ شيءٌ من تلك الروح القديمة التي كانت تجعل من الكلمة قدرا للحرية.
لهذا حين أمشي اليوم في شوارع باريس أشعر أنني ألتقي ببغداد، وأن الفلسفة التي تتنفسها ضفاف مكتبات نهر السين في باريس ليست سوى صدى بعيد لتلك الفكرة التي ولدت على ضفاف دجلة ببغداد، يوم كان الإنسان العراقي يسائل ذاته والكون في لحظة واحدة. لذا، فإن باريس تذكرنا بأن الفلسفة لا تنتمي إلى جغرافيا بعينها فهي تنتمي إلى الوعي الإنساني في أرقى تجلياته، وأن موتها في أي مدينة هو موت بطيء للمعنى نفسه.










