TOP

جريدة المدى > خاص بالمدى > شح المياه يهدد باندثار «مضايف القصب» في أهوار الجبايش

شح المياه يهدد باندثار «مضايف القصب» في أهوار الجبايش

نشر في: 29 أكتوبر, 2025: 12:04 ص

النجف / عبدالله علي العارضي

يواجه الحرفيون في جنوب العراق خطر فقدان مهنة صناعة المضايف من القصب، التي تُعد من أقدم المهن التراثية. وتنهار هذه الحرفة، التي توارثتها الأجيال وكانت رمزاً للضيافة، بشكل تدريجي بسبب شح المياه وتراجع نمو القصب.

وقال مطر أبو أحمد، من سكنة أهوار الجبايش، لـ«المدى» إن «المهنة ورثناها عن أهالينا كوننا أبناء بيئة الأهوار»، مضيفاً أن «الأهوار كانت منتشرة في جنوب العراق، نهاية نهر الفرات ودجلة، مثل أهوار الحمار وميسان، لكن في السنوات الأخيرة، بدأ القصب يختفي بنسبة 80%، لا سيما في ذي قار، حيث أصبح شبه معدوم».
وأشار إلى أن «مع ندرة المادة الأولية، تحولت رحلة القصب إلى مغامرة تمتد إلى محافظات أخرى، فنلجأ الآن إلى قصب البزول والمزارع المنتشرة في الحلة والكوت، وأحياناً نضطر إلى استيراده من إيران عبر ميسان، خاصة عند مناطق هور السودة والبيضة»، موضحاً أن الأسعار تضاعفت بسبب طول المسافة وكلفة النقل والجمارك.
ولفت أبو أحمد إلى أن دخول الشركات النفطية إلى مناطق الأهوار زاد من تعقيد المشهد، قائلاً: «بدأت الشركات تستولي على أجزاء واسعة من الأهوار، مثل هور الحويزة، عبر إقامة سدود ترابية كبيرة. ومع جفاف الهور، أصبح الأهالي يعبرون إلى الجانب الإيراني للحصول على القصب بأسعار مضاعفة».
وأضاف: «سعر حمولة (اللوري) الواحدة من القصب ارتفع إلى ثلاثة ملايين دينار بعد أن كان مليوناً فقط، ما انعكس مباشرة على تكاليف بناء المضايف. رغم هذه الصعوبات، لا نستطيع ترك هذه المهنة، فهي مصدر رزقنا الوحيد».
وبيّن أن إدراج هور الجباية عام 2016 على لائحة التراث العالمي «خلق أملاً بأن الحكومة ستعيد الحياة للأهوار، لكن بعد سنتين فقط عاد الجفاف. حتى تركيب المضخات على السدة الترابية بين الجبايش وقضاء المدينة لم ينفع، فمياه البصرة مالحة وشحيحة، وتُفتح فقط عند زيارة مسؤول».
وأضاف: «النتيجة؟ ارتفاع أسعار النقل والمواد. البارية التي كنا نشتريها بعشرة آلاف دينار أصبحت اليوم بخمسة وعشرين ألفاً. كل شيء تضاعف، بينما المياه تتناقص».
وقال عبد الأمير فرج، أحد أقدم صانعي المضايف في الناصرية وقائد «جوكة» تتألف من تسعة رجال، لـ«المدى» إن «بداية الأزمة أجبرتنا على البحث عن القصب في محافظات أخرى، بل وحتى جلبنا كتب رسمية لندخل إيران ونشتري القصب، وسعره هناك ضعف المحلي بسبب أجور النقل والضريبة».
وأضاف: «طلبات بناء المضايف لم تتراجع، لكن المشكلة الآن في توفر القصب. (الباكة) كانت بألف، صارت بألفين. بهذا الشكل، أرى أن مستقبل هذه المهنة مهدد بالانقراض. المياه شحيحة، والمهنة دخلت أزمة خطرة».
وشدد على أن «المهنة بحاجة إلى دعم حكومي عاجل، فالكثير من زملائي في (الجوكة) تركوها واتجهوا إلى أعمال أخرى، مثل البناء أو الهجرة إلى المحافظات».
وكشف أن عدد فرق العمل في الناصرية تراجع بشكل كبير، قائلاً: «كنا خمس (جوكات)، اليوم لم يتبق سوى اثنتين فقط في كل الناصرية. أما الأهوار التي كنا نجلب منها القصب، مثل الكبة والإيشان، فقد اندثرت تماماً».
ولفت عبد الزراق شرقي، أحد الحرفيين، إلى أن «المهنة فقدت كثيراً من مكوناتها الأصلية. البارية أصبحت شبه منقرضة، وحتى الحبل المصنوع من القصب الذي كنا نلف به الحنية لم نعد نصنعه. استبدلناه بالحبل الاعتيادي لأن القصب النادر لا يمكن استخدامه لصنع الحبال».
وأضاف: «نستمر رغم الظروف، لكن الصناعة تشهد ضعفاً كبيراً».
وقال الشيخ صلاح الفرعون، أحد شيوخ عشائر ال فتلة في النجف، لـ«المدى» إن «بناء المضيف من القصب هو موروث تقليدي نشأ بسبب شح مواد البناء كالطابوق والخشب، لكنه مع تطور الزمن تطور أيضاً، من بسيط إلى ضخم، مثل مضيفنا الذي يحتوي على 17 حنية، ويعد الأكبر في المدينة».
وأشار إلى أن «المضيف ليس مجرد بناء، بل هو مكان لحل النزاعات ومجالس العشائر، أضفنا الحديد إلى المضيف ليس لتغيير شكله أو تراثه، بل لمنحه مزيداً من المتانة والقوة في مواجهة الرياح العاتية التي كانت تتسبب بانحناء أجزاء من المضيف».
تُعد مهنة صناعة المضايف القصبية رمزاً للهوية والضيافة والثقافة الجنوبية. لكن بين شحة المياه، وغياب الدعم الحكومي، وغلاء الأسعار، تبدو هذه المهنة في مواجهة صعبة مع الزمن.
الأهوار التي كانت يوماً مصدر حياة وتراث، أصبحت اليوم تواجه الجفاف، مثلها مثل المضايف التي تنهض على ضفافها. والقصبة التي كانت تقام بها الأعمدة وتنسج منها الحكايات قد تختفي إن لم تُروَ بالماء من جديد.
وقال علي المسافري، خبير زراعي ورئيس منظمة مختصة بالآثار والأهوار، لـ«المدى» إن «هناك فرقاً كبيراً بين القصب الإيراني والمحلي نتيجة لاختلاف عذوبة المياه. المياه العذبة هي العامل الأساس في إنتاج القصب، فالقصب الإيراني يمتاز بالقوة والصلابة وارتفاعه الكبير، حتى أن الخطاطين باتوا يفضلون استخدامه في الخط العربي لمتانته».
وأشار إلى أن «أسعار القصب المستورد غالباً ما تكون أعلى من المحلي بسبب كلفة النقل وأجور الأيدي العاملة والضرائب الحدودية».
وأضاف: «قصب العمارة من أفضل الأنواع في العراق، بل أفضل من القصب في الفرات الأوسط والناصرية، لأنه يتغذى من مياه نهر دجلة ذات الملوحة المنخفضة، ما يمنحه صلابة وطولاً ولوناً مميزاً».
وشدد: «الجفاف تسبب بموت مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت تنتج القصب، والعوامل المناخية وسوء إدارة الموارد المائية دفعا البنائين إلى اللجوء للقصب المستورد رغم تكلفته العالية».
وتابع: «كل الحلول تبدأ من إدارة المياه، فإذا اهتمت الجهات المسؤولة بالجانب البيئي وزادت الإطلاقات المائية، فسنشهد عودة الحياة والقصب إلى الأهوار من جديد».
وكشف المؤرخ فلاح الخزعلي لـ«المدى» أن «العلاقة بين المضيف القصبي والأهوار علاقة عميقة ووثيقة، تجسدت في مناطق الجنوب العراقي كالبصرة والناصرية والعمارة، لذا ارتبط بناء المضايف بها بشكل مباشر».
وأشار إلى أن «بناء المضايف يعود إلى زمن السومريين قبل نحو خمسة آلاف عام، وقد تم العثور على منحوتة جبسية في أوروك تعود إلى عام 3200 قبل الميلاد تُظهر واجهة مضيف قصبي مماثل لما هو قائم اليوم، وتُعرض في المتحف البريطاني».
وأضاف: «المضيف ليس مجرد بناء من القصب، بل مؤسسة ثقافية واجتماعية وسياسية تحمل دلالات عميقة. يفتح أبوابه للضيوف سواء كانوا معروفين أو غرباء».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. طالب السنجري

    منذ 1 شهر

    الكاتب الصحفي عبد الله العارضي وهو يكتب عن الأهوار ويلتقي أهلها بعرض وإسلوب رائع أرجو لهذا القلم التقدّم .

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

مقالات ذات صلة

لا حسم في

لا حسم في "الإطار": الملف البرتقالي يخرج بلا مرشحين ولا إشارات للدخان الأبيض

بغداد/ تميم الحسن أصبح "الإطار التنسيقي" يبطئ خطواته في مسار تشكيل الحكومة المقبلة، بانتظار ما يوصف بـ"الضوء الأخضر" من واشنطن، وفق بعض التقديرات. وفي المقابل، بدأت أسماء المرشحين للمنصب الأهم في البلاد تخرج من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram