عصام الياسري
مقدمة
الدولةُ بوصفها وصيًّا على المصلحة العامة منذ نشأة فكرة الدولة الحديثة، ارتبط مفهومُها الجوهريُّ بقدرتها على صيانة الثروة وحماية الممتلكات الوطنية العامة، فالدولة ليست فقط جهازًا إداريًّا يدير شؤون الناس، بل حارسٌ على المال العام والأرض والسيادة والعدالة والاستقرار وصيانة ممتلكات الأمة وضمان استدامة ثرواتها العامة والخاصة. لكنَّ العراق، وبعد أن تعرّض عام 2003 تحديدًا إلى انقلابٍ جوهريٍّ، حين انتقلت السلطة من نموذج الدولة المركزية إلى نظام المحاصصة الحزبية الطائفية، تبدّل الولاءُ من الوطن إلى الجماعة، ومن المصلحة العامة إلى المنفعة الخاصة. شهد هذا الدور انقلابًا دراماتيكيًّا، إذ تحوّل التهاونُ في حماية أملاك الدولة إلى استحواذٍ ممنهجٍ عليها، لتصبح الثروة العامة والخاصة ساحةً مفتوحةً لتقاسم النفوذ السياسي والاقتصادي.
من الدولة المركزية إلى فوضى ما بعد الاحتلال:
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، كانت الملكية العامة تُعدُّ ركيزةً للسيادة الوطنية، فالمشاريع الزراعية والمصانع والموانئ والعقارات الحكومية كانت تُدار عبر جهازٍ بيروقراطيٍّ منضبطٍ حافظ على مبدأ قدسية المال العام. لكنَّ الحروب الطويلة، والعقوبات الدولية، ثم الاحتلال الأميركي عام 2003، أدّت إلى انهيار هذا الجهاز الإداري وتفكيك مؤسسات الدولة. ومع حلّ الجيش وإلغاء أجهزة الرقابة، وفتح ملفات "اجتثاث البعث"، أصبحت الوزارات خاليةً من الخبرة، فحلّت محلّها قوى حزبية تتقاسم النفوذ وفق نظام المحاصصة الطائفية. في تلك اللحظة بدأ الانزلاق من "دولة المؤسسات" إلى دولة الغنائم.
التحوّل من الإهمال إلى الاستحواذ:
في السنوات الأولى بعد 2003، ساد فراغٌ إداريٌّ وقانونيٌّ مكَّن العديد من الجهات من الاستيلاء على أراضٍ وممتلكاتٍ عامةٍ وخاصّةٍ بذريعة "الاستثمار" أو "التخصيص". ومع مرور الوقت، تحوّل ذلك إلى نظامٍ اقتصاديٍّ موازٍ تديره أحزابٌ وجهاتٌ نافذة، حيث تُستخدم العقارات العامة كمصدر تمويلٍ سياسيٍّ. الأراضي التي كانت مخصّصة للمشاريع التنموية أو السكنية أُعيد تصنيفها بقراراتٍ ارتجاليةٍ أو بصفقاتٍ خلف الكواليس. هكذا أصبحت ملكية الدولة عملةً سياسيةً تُتداول في صفقات الولاء والتحالفات.
الدولة الزبائنية:
حين تصبح الثروة وسيلةً للنفوذ في علم السياسة، يُعرَف هذا النمط من الحكم بـ"الدولة الزبائنية"، حيث تُوزَّع الثروات والمناصب والعقارات مقابل الولاء السياسي. بهذا تفقد الدولة وظيفتَها الأساسية كمؤسسةٍ عامةٍ، وتتحول إلى شبكةٍ من المصالح الخاصة. في العراق، تجلّى هذا بوضوح: أحزابٌ تمتلك أذرعًا اقتصاديةً تدير مشاريعَ وعقاراتٍ كانت يومًا تابعةً للدولة أو لمواطنين عراقيين خارج بلادهم. قراراتُ تخصيصٍ وبيعٍ للأراضي الحكومية دون شفافيةٍ أو مساءلةٍ. مؤسساتٌ رقابيةٌ عاجزة، وقوانينُ تُفسَّر حسب ميزان القوى لا وفق العدالة. النتيجة كانت تشويهًا لمفهوم المواطنة، إذ لم يعد المواطن شريكًا في الثروة، بل متفرّجًا على توزيعها على الحسب والنسب بالضدّ من إرادته.
الآثار.. اقتصادٌ هشٌّ ومجتمعٌ فاقدٌ للثقة:
اقتصاديًّا: تقلّصت موارد الدولة الحقيقية، وتحول الاستثمار العام إلى واجهةٍ لتمويل الأحزاب. ضعفَ التخطيط العمراني وفقدت المدنُ هويتها نتيجةَ مشاريعَ عشوائيةٍ قائمةٍ على النفوذ لا على الرؤية.
اجتماعيًّا: تصاعد الإحباط الشعبيّ مع شعور المواطنين بأن الثروة العامة تُنهَب باسم الشرعية القانونية. تآكل الإحساس بالانتماء، لأن المواطن فقد ثقته بعدالة الدولة وقدرتها على حماية الممتلكات المشتركة.
سياسيًّا: أصبح القرار الاقتصادي خاضعًا للمساومات الحزبية، وتحول مركز السلطة من مؤسسات الدولة إلى تحالفات نفوذٍ غير رسمية.
المساءلة الغائبة والعقد الاجتماعي المفقود:
في الدول الديمقراطية، تُعدّ المحاسبة المؤسسية والإعلام الحرّ صمامي أمانٍ ضد تهاون الحكومة في حماية المال العام، عبر منظومةِ القضاء والرقابة المالية بحيث تصبح مستقلةً فعلاً عن النفوذ السياسي. ينبغي تعزيز الشفافية الإعلامية والمجتمعية عبر فتح ملفات الأملاك العامة أمام الرأي العام، وغرس ثقافةِ الملك العام في الوعي الشعبي والتربوي، لأن حماية الثروة الوطنية تبدأ من المواطن لا من القوانين وحدها.
خاتمة:
إنّ ما يواجهه العراق اليوم ليس مجرد أزمة فسادٍ أو تجاوزاتٍ عقارية، بل أزمةُ هويةٍ في تعريف الدولة نفسها. فحين تُفرّط الحكوماتُ بممتلكات الأمة ومواطنيها، تتحول الدولة من كيانٍ راعٍ إلى طرفٍ في الصراع على الغنائم. الطريق إلى الإصلاح يبدأ من استعادة معنى الدولة: أن تكون حارسًا على ثروات الأجيال، لا تاجرًا في أسواق النفوذ. فالأرض والعقار والمال العام والخاص ليست ملكًا لحزبٍ أو سلطة، بل وديعةٌ وطنيةٌ لا تُباع ولا تُشترى. لكن في العراق، ضعف استقلال القضاء وهيمنة المحاصصة جعلا الرقابة شكليةً، وأفرغت الأجهزة الرقابية من محتواها، وأصبح القانون مرنًا أمام الأقوياء صارمًا أمام الضعفاء. بهذا المعنى، لم تضعف مؤسساتُ الدولة فحسب، بل انكسر العقدُ الاجتماعيُّ نفسه الذي يفترض أن الدولة تدير الثروة لمصلحة الجميع. إنّ استعادة الثقة لا تكون إلا بإعادة بناء الدولة ذاتها على أساس المواطنة لا المحاصصة، وذلك يتطلب تحصينَ الملكية العامة والخاصة دستوريًّا وتجريمَ التصرف بها دون رقابةٍ قضائيةٍ صارمة.









