ترجمة: عدوية الهلالي
تنسج الكاتبةُ الجزائريّةُ في روايتها الجديدة الصادرة عن دار ستوك للنشر "الفرح العدوّ"، المستوحاة من لوحاتِ الفنانةِ باية، رائدةِ الرسمِ الجزائريّ الحديث، قصةَ مصيرين على خلفيّة "العشرية السوداء".
ومن المعروف أن "العشرية السوداء"، "سنوات الرصاص"، "الإرهاب"… كلّها تعابير تُشير إلى الحرب الأهليّة الجزائريّة. وبالنسبة لكوثر عظيمي، فقد شهدت أوائل التسعينيات عودةَ أسرتها إلى بلدٍ غادره والداها، وكلاهما صحفيّان، ليستقِرّا في فرنسا. وستظلّ أسبابُ عودتهما عام 1994، في وقتٍ كان فيه الكثير من الجزائريين يختارون المنفى، غامضةً للكاتبة لفترةٍ طويلة.
ففي سنِّ الثامنة، وصلت عظيمي إلى الجزائر العاصمة. وفي اليوم التالي، صادفت سيارةُ والدها حاجزًا وهميًّا للجماعة الإسلاميّة المسلّحة، فبدأت والدتُها بالدعاء: "ليس اليوم. ليس هكذا. ليس وأنا أُذبح على هذا الطريق، ومعي أطفالي".
تُخلِّد كوثر عظيمي هذا المشهدَ الأصيلَ والصادمَ على الورق بربط قصّتها بقصّةِ باية (1931-1998)، أيقونةِ الرسم الجزائري، التي ساعدت لوحاتُها الكاتبةَ؛ فقد تغيّر مصيرُ باية عندما التقت بمارغريت كامينات، وهي رسامةٌ فرنسيةٌ مقيمةٌ في الجزائر، بعد أن لاحظت موهبتَها وشجّعتها. وفي عام 1947، عرض صديقُ مارغريت، النحاتُ جان بيريساك، أعمالَ الفنانةِ الناشئة على إيمي مايت، الذي عرضها في باريس. كانت باية في السادسة عشرة من عمرها. حضر الافتتاحَ كلٌّ من براك، وبريتون، وماتيس، وكامو، الذي كتب عن لوحاتها: "في باريس المظلمة والمرعبة، تُبهج هذه الفنانةُ العيونَ والقلوب".
وتحتفي رواية "الفرح العدوّ" بقدرة الفنّ على دحر الظلاميّة. لكنّ هذه القصّة القويّة والحسّاسة لا تُخفي شيئًا من الجروح الداخليّة لكاتبةٍ طبعتها هذه السنواتُ المظلمة، ولا جروحَ فنانةٍ اضطُرّت إلى تحمّلِ مسؤوليّة رفعِ رايةِ وطنِها ولن تُفارقه أبدًا: "ليس لديَّ ما أخافُ منه؛ أنا بين أناسٍ عرفوني دائمًا".
وتمثّل هذه الرواية بادرةَ وفاءٍ لمهدِ البدايات، ولرموزِ الجزائر، فبعد الأمكنةِ التي أثّثت بها إبداعاتُها السابقة، تستذكر هذه المرّة قامةً من قاماتِ الفنّ التشكيليّ الجزائريّ. لقد ظلّت عظيمي وفيّةً للأمكنةِ التي كانت محفّزَ كتاباتها في أعمالٍ سابقة، على غرار رواية "صغار ديسمبر"، و"ثرواتنا"، و"نذير شؤم". ورغم مغادرتها الجزائرَ في سنّ الرابعة حين قرّر والدَاها الاستقرارَ بفرنسا، قبل اتخاذ قرارِ الرجوعِ إلى الجزائر، ثم عادت كوثر إلى ديار الغربة من جديد عام 2009، دون أن تقطع الحبلَ مع العاصمةِ التي فتحت فيها عينيها، وحملت الجزائرَ في قلبها لتنبضَ في كلّ ظهورٍ أدبيٍّ لها خلال مسيرتها الأدبيّة التي أنتجت ستَّ رواياتٍ كاملةً ومكانةً خاصّةً لدى القرّاء والنقّاد.
في رواية "الفرح العدوّ"، تواجه الكاتبةُ ذكرياتها في رحلةِ بحثها عن الحقيقة، وتسأل عائلتَها، وتحاول ملءَ الفراغات، وتتساءل – ضمن أمورٍ عديدة – لماذا أراد والدَاها العودةَ إلى أرض الوطن فيما كان كلُّ من بمقدوره الهجرةَ يفرّ للنجاة؟ كيف يمكن للشخص أن يبنيَ نفسه والماضي يطارده ويستهلك لياليه؟
الرواية، المكتوبةُ بأسلوبٍ سلسٍ وجذّاب، هي كلّ هذا. إنّها "استكشافٌ لضرورةِ إعادةِ البناء بعد صدمةِ العشرية السوداء، من خلال مواجهةِ الذكرياتِ والصمتِ، في محاولةٍ للتغلّب على رعبِ وفراغِ هذا الماضي". روايةُ "الفرح العدوّ" هي نصٌّ مؤثّرٌ آخر، يميط اللثامَ عن جانبٍ من حقبةٍ عسيرةٍ مرّت بها الجزائر. صفحةٌ حزينةٌ من تاريخها المعاصر، بأوجاعٍ وآلامٍ ينقلها حبرُ كوثر عظيمي، فيضع النصُّ القارئَ – رغمًا عنه – وجهًا لوجهٍ مع مأساةٍ يجد الكثيرون أنفسَهم فيها. إنّها مواجهةُ الذات من خلال نوعٍ من العلاج بسحرِ الكلمات وذكاءِ السرد.
وبين السطورِ استذكارٌ للفنانةِ وقامةِ الفنّ التشكيليّ باية محي الدين – التي التقت بها خلال التسعينات – تأكيدًا على انتصار الإبداعِ على الظلاميّة والتطرّف. باية التي اقتحمت عالمَ الإبداع بالفطرة، والتي ألهمت الفنانَ الإسبانيَّ بيكاسو. باية التي كانت لوحاتُها تصرّ على الحياة خلال سنوات الإرهاب، في مقاومةٍ لأعداءِ النور، حيث تكرّمها كوثر عظيمي على طريقتها.
وُلدت الكاتبةُ كوثر عظيمي في الجزائر. هي ابنةُ أحمد عظيمي، وهو أكاديميّ ورجلُ سياسة. عاشت في الجزائر مدّةَ أربع سنوات قبل أن تغادر مع عائلتها لتستقرَّ في غرونوبل بفرنسا لمدّة أربع سنوات. وخلال هذه الفترة اكتشفت متعةَ القراءة مع والدِها الذي كان يأخذها كلَّ أسبوعٍ إلى مكتبةِ البلدية. وفي 1994 عادت عظيمي إلى الجزائر خلال فترة العشرية السوداء. ونظرًا لوجود فرصٍ قليلةٍ جدًّا للقراءة، بدأت في كتابة قصصها الخاصّة.
وأثناء دراستها في جامعة الجزائر، شاهدت ملصقًا من المعهد الفرنسيّ الذي كان يُنظّم مسابقةً للكتّاب الشباب في موريه. وحصلت القصصُ القصيرة التي قدّمتها للجنة التحكيم مرّتين على جائزة الكاتب الشاب الناطق بالفرنسية ("همسات الملائكة" 2006 و"قدم العذراء" عام 2008). وبفضل هذه المسابقة، دُعيت إلى موريه، ثم إلى تولوز، ثم إلى باريس، حيث التقت بدار النشر الجزائريّة "البرزخ".
في عام 2008، حصلت على الجائزة الأولى في مهرجان الجزائر الدوليّ للأدب وكتب الأطفال عن روايتها "على رأس الرب الصالح"، ونالت شهادةً في الأدب الحديث وإدارة الموارد البشرية. وفي عام 2009، نشرت أولى رواياتها تحت عنوان "راقصات الباليه من بابيتشا" عام 2010، وثاني رواياتها "حجارة في جيبي" عام 2015، ونتيجةً لما حقّقته الرواية من نجاحٍ واسع، أشاد النقّاد من الجزائر وفرنسا بها، ورُشّحت للعديد من الجوائز الأدبيّة.
في عام 2017 حصلت على جائزة الأسلوب التي تمنحها "رينودو" لطلاب المدارس الثانوية عن روايتها التي تحمل عنوان "ثرواتنا"، والتي استحقّت جائزة "الغونكور" الفرنسية أيضًا، كما نالت جائزة "المهنة الأدبية" عن رواية "راقصات الباليه من بابيتشا" (2011)، وجائزة "الأدب العربي" في فرنسا عن رواية "ثرواتنا"، و"حجارة في جيبي"، وجائزة "رينودو" لتلاميذ الثانويات عن رواية "صغار ديسمبر"، وجائزة "ميديسيس" عن رواية "ثرواتنا"، وجائزة "الرواية العربية" عن رواية "صغار ديسمبر".
شاركت كوثر عظيمي في تظاهرة "ليلة الأفكار" التي نظّمها المعهدُ الفرنسيّ في الجزائر، وتحدّثت عن روايتها "صغار ديسمبر". وأعربت عن معارضتها لهواة أدب الاستعجال، نظرًا لأنه قائمٌ على الإسراع في الكتابة عن أحداثٍ تجري في الوقت الحالي، مشيرةً إلى أنّها تفضّل أن تخصّص وقتًا كافيًا لفهم تلك الأحداث لكي تتمكّن من الكتابة عنها.
كتبت روايتَها الخامسة "في الريح السيّئة"، والتي ترسم فيها – من خلال مصائر ثلاث شخصيّات متقاطعة – لوحةً جداريّةً كبيرةً للجزائر، من الاستعمار إلى النضال من أجل الاستقلال، حتى صيف عام 1992، عندما سقطت البلاد في حربٍ أهليّة. وحصلت هذه الرواية على جائزة مونتلوك للمقاومة والحرية عام 2023.
"الفرحُ العدوّ" لكوثر عظيمي: قوّةُ الفنّ في مواجهةِ الظلاميّة

نشر في: 29 أكتوبر, 2025: 12:02 ص









