بغداد/ محمد العبيدي
لم يعد الأداء النيابي في نظر شريحة واسعة من المواطنين يُقاس بقدرة النائب على تشريع القوانين أو مراقبة اداء الحكومة، بل بات يُقاس بعدد "أعمدة الكهرباء" التي نصبها، أو مقدار الطرق التي بُلِّطت بكتاب منه، أو بحجم الخدمات التي استطاع إيصالها إلى منطقته، حتى وإن كانت تلك الخدمات من صميم واجبات الحكومة التنفيذية.
هذا التحول في معايير التقييم الشعبي خلق ما يُعرف داخل الأوساط السياسية بـ"نواب التبليط والمحولات"، وهي تسمية تعبّر عن تغيّر الذهنية العامة التي باتت ترى في النائب مسؤولاً خدمياً لا تشريعياً، الأمر الذي أضعف دور البرلمان وحوّل العمل النيابي إلى منافسة بلدية لا سياسية.
وكشف تقرير للمرصد النيابي أن الدورة الخامسة لمجلس النواب العراقي تُعدّ الأضعف أداءً منذ عام 2006، سواء على صعيد التشريع أو الرقابة أو الحضور النيابي.
وأوضح التقرير أن "المجلس عقد 148 جلسة فقط، ولم يشرّع سوى 69 قانوناً خلال ثلاث سنوات، فيما بلغ معدل الغياب 156 نائباً في كل جلسة، مع تخلّفه عن عقد 116 جلسة مقررة، كما لم تُعقد أي جلسة في موعدها المعلن، في حين لم تُنجز 9 لجان برلمانية أي قانون، وسُجّلت جلستان فقط للاستجواب طوال الدورة، مقابل تعطيل ملفات استجواب لوزراء ومسؤولين بارزين".
المخرجات، التي يُفترض أن تُشكّل مادة للنقاش العام حول كفاءة النواب، لم تُحدث أي ضجة تُذكر على المستوى الشعبي، إذ انحصر تداولها داخل النخب السياسية ووسائل الإعلام، بينما لم يُبدِ الشارع اهتماماً يُذكر، وهو ما فُسّر بأنّ الكثير من المواطنين باتوا ينظرون إلى النائب من زاوية "الخدمة الفورية" لا من أدائه التشريعي والرقابي.
زبائن الانتخابات
بدوره، أوضح النائب في البرلمان محمد الزيادي أن "الخلط بين دور البرلمان ومجالس المحافظات أثّر كثيراً على صورة المؤسسة التشريعية"، مضيفاً أن "النواب اليوم يتعاملون مع الناخب كزبون انتخابي، لا كمواطن من المفترض أن يُمثَّل صوته في البرلمان".
وأوضح الزيادي في حديثٍ لـ(المدى) أن "المفترض امتلاك النائب خلفية سياسية وتشريعية تمكّنه من اقتراح حلول واقعية للمشكلات الاقتصادية، لكن المشهد الحالي مختلف تماماً، إذ أصبحت المعادلة السائدة هي (بلّط وفز)"، مشيراً إلى أن "هذا التوجّه يجعل البرلمان المقبل أمام تحدٍّ كبير في استعادة ثقة المواطنين وتحقيق أداء نيابي حقيقي".
وتنشط الخدمات الانتخابية بشكل ملحوظ في فترات ما قبل الاقتراع، إذ يسعى بعض النواب والمرشحين إلى كسب التأييد الشعبي من خلال تنفيذ مشاريع صغيرة أو تأهيل بنى تحتية في مناطق محددة، باستخدام نفوذهم السياسي أو علاقاتهم داخل الوزارات، في محاولة لتكريس حضورهم الانتخابي على حساب الدور الرقابي والتشريعي المفترض.
ويرى خبراء أن هذا النمط من السلوك النيابي أدّى إلى إضعاف فكرة "البرلمان المؤسسي"، فبدلاً من أن يكون النائب مراقباً للسلطة التنفيذية، أصبح جزءاً منها من خلال تبادل المنافع أو التفاهمات المحلية.
لا ثقة بالوعود
وفي السياق ذاته، اعتبر الباحث السياسي محمد الحكيم أن "الدعايات الانتخابية للنواب اليوم صارت محصورة بالمشاريع المادية مثل تبليط الطرق وتحويل المحولات، فيما اختفت البرامج السياسية والمهنية التي تعكس الأداء البرلماني الحقيقي".
ويؤكد الحكيم خلال حديثه لـ(المدى) أن "المجتمع العراقي لم يعد يثق بالوعود الانتخابية منذ عام 2003، لذلك بات يقيس نجاح النائب بعدد المشاريع الخدمية التي ينفّذها، لا بمدى كفاءته أو تأثيره داخل البرلمان".
وأضاف أن "استمرار هذا النمط من التفكير سيجعل أي تقرير عن الأداء التشريعي بلا أثر حقيقي، لأنّ الناخب فقد الاهتمام بجوهر العمل البرلماني، وصار يبحث عن نتائج ملموسة في منطقته، حتى وإن كانت لا تدخل ضمن صلاحيات النائب".
ويخلص مراقبون إلى أن غياب التمييز بين النائب والموظف التنفيذي خلق عقلية انتخابية جديدة تُكافئ من يُقدّم خدمات آنية، لا من يُشرّع قوانين أو يراقب أداء الحكومة، ما يجعل البرلمان المقبل أمام معادلة صعبة؛ فإمّا الاستجابة لذهنية "بلّط وفز"، أو استعادة دوره الحقيقي كمؤسسة تشريعية رقابية تمثّل إرادة الدولة لا بلدية موسّعة.










