متابعة / المدى
حذّر تقرير لوكالة «رويترز» من أن تغير المناخ يعرض العراق لخطر وجودي يهدّد ذاكرته الحضارية، إذ قد يؤدي الجفاف والتصحّر والملوحة والعواصف الرملية إلى طمر ما يصل إلى 90% من المواقع الأثرية في جنوب البلاد، من بينها مدينتا أور وبابل المدرجتان على قائمة التراث العالمي.
يتعرض العراق لخطرٍ وجودي يهدد ذاكرته التاريخية بسبب تغير المناخ، إذ تتعرّض مواقع أثرية بارزة مثل «أور» و«بابل» للتدمير بفعل الجفاف وتراجع مناسيب نهري دجلة والفرات وارتفاع نسبة الملوحة والعواصف الرملية. التصحّر يزحف على مهد الحضارات مهدداً بطمر معالم عمرها آلاف السنين، في ظل غياب خطط وطنية فاعلة لإنقاذ التاريخ.
وأكد تقرير «رويترز» أن العراق يواجه اليوم مأزقاً وجودياً يهدد ذاكرته الثقافية والتراثية، مشيراً إلى أنّ بلاد ما بين النهرين، التي أنجبت الكتابة والزراعة والمدن الأولى، تقف على مشارف اندثار جديد لا تُطلقه الحروب هذه المرة، بل تغيّرات المناخ القاسية التي تنحت آثارها على المعالم القديمة. وأضاف أنّ التصدّعات التي أصابت الأرض وتراجع منسوب الأنهار والزحف المتزايد للرمال تُبدّد شواهد التاريخ واحدة تلو الأخرى، كأنّها تستسلم لصمت الطبيعة بعدما نجت قروناً من الحروب والإهمال الإداري.
وأوضح التحقيق أنّ الأراضي العراقية، خصوصاً في المناطق الجنوبية، تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى مساحات جافة ينهشها التصحّر وترتفع فيها نسب الملوحة بشكل غير مسبوق، فيما تراجع منسوب دجلة والفرات وتزايدت العواصف الرملية التي تخفي تحتها طبقات من التاريخ الممتد لآلاف السنين. ومع كلّ عاصفة جديدة، تُدفن أجزاء من الذاكرة المادية لبلاد الحضارات.
في مدينة أور، مهد النبي إبراهيم، بدأت الكثبان الرملية بأكل الجهة الشمالية من الزقّورة الشهيرة التي شُيّدت قبل أكثر من أربعة آلاف عام للإله القمري نانا. وقال العالم في دائرة آثار ذي قار عبدالله نصرالله إن الرياح المترافقة مع الكثبان الرملية تؤدي إلى تآكل أجزاء من البناء، موضحاً أن الطبقة الثالثة من الزقّورة تضررت مسبقاً بفعل المناخ، وأن التآكل وصل اليوم إلى الطبقة الثانية.
ويُعد المعبد الذي أدرجته «اليونسكو» في قائمة التراث العالمي من أبرز المعالم التي توفّر فهماً عميقاً للممارسات الدينية والطقوس المقدسة في الإمبراطورية السومرية. وفي موقع قريب منه تتآكل مدافن المقبرة الملكية في أور، التي اكتشفها عالم الآثار البريطاني ليونارد وولي في عشرينيات القرن الماضي.
من جانبه، أوضح المفتش في دائرة الآثار كاظم حسون أنّ الرواسب الملحية الناتجة عن الاحتباس الحراري وتغير المناخ دمّرت أجزاء مهمة من المقبرة، محذراً من أنّ استمرار تراكمها سيؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار كامل للطوب الطيني الذي تتكوّن منه.
ويواجه العراق ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة وجفافاً شديداً زاد من ملوحة جنوب البلاد، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات قبل مصبهما في الخليج.
ولا تقتصر المخاطر على أور وحدها، إذ تواجه مدينة بابل القديمة المصير نفسه. وأكّد مدير عام دائرة الآثار في وزارة الثقافة والسياحة منتصر الحسناوي أنّ المواقع الأثرية في بابل مهددة في ظل تحديات صعبة ناجمة عن نقص التمويل، مشيراً إلى أنّ الملوحة المرتفعة تضعف المواد الطينية التي بُنيت منها المعابد والقصور القديمة.
وأضاف الحسناوي أنّ أعمال الترميم السابقة كانت في بعض الأحيان غير ملائمة، ما جعل البنى القديمة أكثر هشاشة أمام تغيّر المناخ. كما حذّر من أنّ تفاقم الملوحة في المياه الجوفية والسطحية قد يؤدي إلى تدمير مدن أثرية ما تزال مدفونة تحت الأرض في سهول جنوب العراق.
وبيّن التقرير أنّ ما يواجهه العراق ليس مجرد أزمة بيئية عابرة، بل تحوّل شامل يهدد الوجود المادي لذاكرة الإنسانية. ووفق تقارير الأمم المتحدة، أصبح العراق اليوم من أكثر خمس دول تضرراً في العالم من آثار تغيّر المناخ.
وكشفت دراسات ميدانية سابقة أنّ العواصف الرملية ازدادت بشكل لافت خلال العقد الأخير، إذ شهد عام 2022 وحده أكثر من عشر عواصف كبيرة غطّت مناطق الجنوب بطبقات كثيفة من الغبار. وفي موقع «أم العقارب» السومري، قال عالم الآثار عقيل المنصراوي إن الرمال بدأت تزحف منذ عشر سنوات لتغطي أجزاء واسعة من الموقع، محذراً من أنّ «80 إلى 90 في المئة من المواقع الأثرية في الجنوب قد تختفي تحت الرمال خلال العقد المقبل».
ويرى علماء الآثار أنّ العاملين الرئيسيين في تآكل المواقع الأثرية هما العواصف الرملية والملوحة العالية. فالجفاف المستمر وتراجع الغطاء النباتي يجعلان التربة أكثر هشاشة، ما يسمح للرياح بحمل كميات أكبر من الرمال التي تغزو المواقع القديمة وتطمرها تدريجياً. أما ارتفاع الملوحة، فيُسبب تآكلاً بطيئاً للطوب الطيني والنقوش السومرية التي ما تزال تزيّن جدران المعابد.
وأشار المنصراوي إلى أنّ كثافة العواصف الرملية بدأت تمحو سنوات من العمل في الكشف عن المعابد والقطع الأثرية التي لا تُقدّر بثمن، مؤكداً أنّ كميات الرمال المتراكمة تفوق قدرة العاملين على التعامل معها رغم جهودهم المستمرة.
ويعاني العراق أيضاً من تداخل أزمات معقّدة، إذ أدّت عقود من الحروب والعقوبات إلى تدمير أجزاء من تراثه الثقافي، فيما تعاني الإدارات المحلية من ضعف التمويل والكوادر المتخصصة. كما أن مشاريع التشجير أو «الأحزمة الخضراء» للحد من التصحّر ما زالت محدودة الفاعلية بسبب ندرة المياه.
ويرى علماء الآثار أنّ المواقع الأثرية أكثر هشاشة لأنها تقع في مناطق مكشوفة وجافة، ما يجعل المعركة ضد تغيّر المناخ بحاجة إلى خطط وطنية عاجلة، لأن كل تأخير يعني خسارة جديدة من الذاكرة الحضارية.
العراق الذي قدّم للعالم أول شريعة مدوّنة عبر قانون حمورابي، وأول مدن منظّمة مثل أوروك وأور، يجد نفسه اليوم في مواجهة حرب جديدة أمام غضب الطبيعة. فالتغيّر المناخي لا يهدد الزراعة والمياه والحياة اليومية فحسب، بل يمسّ هوية البلاد التاريخية نفسها.
وحذّر التقرير من أنّ استمرار الجفاف والزحف الرملي قد يجعل الأجيال المقبلة تستيقظ لتجد صروح حضارة عمرها سبعة آلاف عام وقد ابتلعها الغبار. ومع كل طبقة جديدة من الرمال، تُدفن صفحة أخرى من تاريخ الإنسانية، وكأنّ الأرض تقرّر محو إرثها الثقافي عقاباً لما ألحقه الإنسان بها من أذى.










