ثائر صالح
زرت فيينا مجدداً قبل أسبوعين، هذه المرة بهدف حضور ثلاث حفلات موسيقية في ثلاثة من أهم صالات فيينا الموسيقية. كانت الحفلات مختلفة الطابع، من أغاني أساطين الباروك حتى ثلاثيات شوستاكوفيتش ورخمانينوف في القرن العشرين، مروراً بعصر فيينا الذهبي مع أوبريت الخفاش لشتراوس.
حضرت الحفلة الأولى في الكونسرتهاوس (Wiener Konzerthaus) وكانت السبب الرئيسي الذي حفزني على القيام بهذه الرحلة. ففرقة بيكماليون الفرنسية وقائدها رافائيل بيشون شقت طريقها نحو الشهرة، وهي من فرق الموسيقى والغناء المتخصصة بتقديم موسيقى عصري النهضة والباروك بالدرجة الأولى، دون أن تهمل تقديم أعمال موتسارت ومعاصريه، وحتى برامز. تأسست سنة 2006 وتميزت مبكراً بمشاريعها التي تغطي نوادر الموسيقى والغناء التي لم تسمع سابقاً أو تقدم بشكل نادر. بدأ بيشون حياته كمغني كونتراتنور عند أشهر موسيقيي تلك الفترة مثل جوردي ساڤال وكوستاڤ ليونهارت وتون كوپمان وتأثر بهم.
تألف البرنامج "ليلة سعيدة، أيها العالم" من مختارات غنائية لعدد من عظماء موسيقى الباروك الألمان، سمعت بأسماء عدد منهم لأول مرة في هذا الحفل. فإلى جانب باخ العظيم وابن عمّه يوهان ميخائيل باخ (1648 - 1694) وعمّه يوهان كريستوف باخ (1642 - 1703)، وديتريش بوكستَهوده (1637 - 1707) وهاينريش شوتس (1585 - 1672) وهانس ليو هاسلر (1564 - 1612) وفيليب هاينريش أرلَباخ (1657 - 1714) الذين أعرفهم جيداً وأحب أعمالهم، تعرفت على أسماء وموسيقى المؤلف والمنظّر والكاتب السياسي والروائي جورج دانيال شْبير (1636 - 1707) الذي برز بتأليف موسيقى الترومبون والنحاسيات، وملخيور فرانك (1579 - 1639) وهو من أوائل الموسيقيين الألمان الذين برزوا في تأليف الموسيقى الكورالية والمتأثرين بالمدرسة الإيطالية (الفينيسية) والذي ألف قرابة 600 موتيت (شكل غنائي بوليفوني من أواخر عصر النهضة) وأخيراً نيكولاوس برونز (1665 - 1697) وهو موسيقى دنماركي - ألماني وعازف اورغن معروف في شمال ألمانيا.
الجامع بين كل هؤلاء هو الألحان الوجدانية المنبعثة من القلب والغارقة في الإيمان التي جاءت كرد فعل لبشاعة حرب الثلاثين عاما وفظاعتها، الحرب التي امتدت بين 1618 - 1648 بين الولايات البروتستانتية والكاثوليكية. وقد استمر تأثير هذه الصدمة لاحقاً على الاسلوب الموسيقي الغنائي الحزين حتى بعد انتهاء المجزرة التي راح ضحيتها بين 4.5 - 8 ملايين شخص في أوروبا الوسطى من الجنود والمدنيين نتيجة الحروب والمجاعات وتفشي الأمراض التي رافقتها، ونجده في أجلى صوره عند أرلَباخ الذي خسرنا معظم أعماله سنة 1735 في حريق مكتبة حفظت فيها مخطوطاته.
افتتحت بناية الكونسرتهاوس الفييناوية في سنة 1913 وهي عبارة عن مجمع يتجاوز حدود الموسيقى التقليدية، صمم ليكون بيتاً للموسيقى والاحتفالات المختلفة. هناك عدد من القاعات، الكبرى تتسع لـ 1840 مقعدا، وقاعة موتسارت بـ 704 مقاعد، وقاعة شوبرت وفيها 336 مقعدا وأخيرا قاعة بريو الجديدة بسعة أربعمئة مقعد. شُيّد المبنى على الطراز الكلاسيكي، لكنه مع ذلك لم يخلو من بصمات طراز الفن الحديث الذي ساد في تلك الفترة.
موسيقى الاحد: ليلة فيينا - الكونسرتهاوس

نشر في: 2 نوفمبر, 2025: 12:01 ص









